لدى غيّوم موسو (1974) وصفة كاملة من التوابل التي يحتاج إليها قارئ اليوم لجهة التشويق واللهاث وراء الألغاز والفانتازيا المسليّة. الروائي الفرنسي الذي عاش طفولته في مكتبة كانت تديرها أمه، ثم الشاب المغامر الذي هاجر إلى نيويورك، وعمل بائعاً للبوظة، ثم عاد إلى باريس محمّلاً بالخبرات الحياتية، وجد في الكتابة ملاذاً حميمياً في التعبير عن ذاته. هكذا اشتبك مع القراء بعناوين مثيرة مثل «لأنني أحبك»، و«عائد لأبحث عنك»، و«الصبية والليل»، و«أنقذني». وإذا برواياته تدخل سوق «الأكثر مبيعاً» من دون عناء، بعد ترجمتها إلى نحو 40 لغة في العالم.

بنظرة ما إلى الحمّى التي اجتاحت قرّاء «البيست سيلر»، سنستعيد الحمّى التي أثارها قبلاً، الروائي البرازيلي باولو كويلو، ثمّ التركية أليف شفق. لكننا هذه المرّة، سننظر بجديّة أكبر إلى روايته «حياة الكاتب السريّة» (2019) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار نوفل» (ترجمة رانيا الغزال)، لاقتحامها مطبخ الكتابة وأسراره، وألعاب الناشرين، واستخدام مفردات الميديا الجديدة وتأثير الفوتوغرافيا في صناعة الحبكة. بالطبع، لم يتخلَّ صاحب «نداء الملاك» عن الحساء البوليسي في طهو روايته، فها هنا أيضاً جريمة ولغز وشرطة، على غرار ما كان يفعله جورج سيمنون الذي يرد اسمه في السياق كنوع من التحية، كما سيتكئ على شذرات مفتاحية من كافكا، وبروست، وشتاينبيك، وميللر، وإيكو، واستثمارها في هندسة المتن السردي، بالإضافة إلى رسم خرائط توضيحية للأمكنة التي تدور فيها وقائع الرواية.
لا أحد يعلم أسباب اختفاء ناثان فاولز وهو في الخامسة والثلاثين بعد مجدٍ روائي وضعه في الواجهة، واعتزاله في جزيرة «بومون» على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. لكن رفاييل باتاي الذي حصل على عمل مؤقت في مكتبة «الوردة القرمزية» وسط الجزيرة، سيجدها فرصة للتعرّف إلى الروائي عن كثب، بأمل معرفة لغز اختفائه أولاً، وكي يقنعه بقراءة مخطوط روايته «خجل القمم» التي رفضها أحد عشر ناشراً، وسيتجاوز صدمة الفشل مسترشداً بسيرة كتّاب كبار سبق أن تلقوا رسائل رفض من دور النشر. لن يهنأ ناثان فاولز بعزلته، إذ يقتحمها الروائي المجهول بإصرار، غير عابئ بالطلقات التحذيرية من بندقية فاولز بألا يقترب من سور بيته. وحين يخبره بأنه روائي بحاجة إلى نصائح منه، يجيبه: «لا يمكن لأحد أن يعلّمك الكتابة. هذا أمر عليك أن تتعلّمه بنفسك» و«حياة الكاتب هي الشيء الأقل روعة في العالم. أنت تعيش كالأحياء الأموات. وحيداً ومنقطعاً عن العالم. تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمّراً أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة وتتحدث إلى شخصيات خيالية ستفقدك صوابك في نهاية المطاف. تمضي لياليك وأنت تعصر أفكارك لتكتب جملة لن يلحظها ثلاثة أرباع قرائك القلائل».
يقتحم مطبخ الكتابة، وألعاب الناشرين، ومفردات الميديا الجديدة وتأثير الفوتوغرافيا في صناعة الحبكة


يلقي رافاييل باتاي نحوه بحقيبة تحوي مخطوط روايته ويغادر عائداً إلى المكتبة. ما إن يختفي رافاييل حتى تظهر ماتيلد موني بوصفها سائحة وقارئة نهمة لكتب الروائي. ورغم محاولات فاولز التخلّص منها، إلا أنها تتمكن من الدخول إلى مملكته المغلقة واجتذابه إلى وقائع تخصّه في محاولة منها لتفكيك لغز اختفائه. نكتشف لاحقاً بأنها تطارد قاتل أبيها، الطبيب المشهور في حادثة هزّت باريس بأكملها. وتبعاً لتحريتها الشخصية، والرسائل التي وجدتها في حوزة أمها، المكتوبة بخطه، فإن أصابع الاتهام موجهة نحو الروائي، على خلفية جريمة قتل متهمين قديمين حدثت في الجزيرة الآمنة. عند هذا المنعطف، يتصل الروائي المشهور بالروائي المغمور طالباً منه تفتيش بيت الصحافية المتهوّرة أثناء غيابها ومعرفة ما تخطط له، فيجد رافاييل فرصته في مقابلة روائيه المفضّل، ورأيه في مخطوط روايته، فيهديه نصائح مهمة أولاها «محاولة إرضاء القارئ هي أفضل طريقة كي لا يقرأ لك»، و«العنصر الأساسي هو العصارة التي تروي قصتك تلك التي يجب أن تتملّكك، وتسري داخلك كالتيار الكهربائي بحيث لا يمكنك سوى أن تمضي في روايتك حتى النهاية» و«مهنة الروائي ليست وظيفة دوامها جزئي، إذا كنت روائياً فستكون روائياً على مدار الساعة». اعتراف فاولز بأهمية رواية الشاب منحته جرعة معنوية لكتابة رواية جديدة يستثمر فيها وقائع جريمة القتل التي زلزلت طمأنينة الجزيرة، ما يستدعي سرداً متناوباً بين مجريات حياة الروائي، ووقائع الجريمة الجديدة. ولكن مهلاً، هناك قصة حب أيضاً سيرويها فاولز لماتيلد التي احتلت دور شهرزاد في رواية حكايتها، زيارة وراء زيارة. سنعلم أن الروائي كان على علاقة بطبيبة متطوعة قُتلت في حرب كوسوفو على يد والد ماتيلد الذي كان يتستر بمهنته كطبيب إنساني بتجارة أعضاء ضحايا الخطف أثناء الحرب المجنونة، وأن الطبيب هو من قتل عائلته خوفاً من الفضيحة. آخر ما نفكر به، هو أن صاحب المكتبة هو من ارتكب جريمة الجزيرة، انتقاماً من المتهمين القديمين بعد خروجهما من السجن.
تنطوي جرعة التشويق البوليسية على تحدٍّ سردي يلخّصه غيّوم موسّو في جملة عابرة هي «رحلة تأمل في الحداد والحياة الداخلية وقوة الكتابة»، وأن تاريخ الفن هو «تاريخ المخالفات»، وأن «من كان كاتباً يوماً واحداً، يصبح كاتباً للأبد». كما لا يتردّد في تشريح سيرته الكتابية كظاهرة استثنائية غزت العالم «عندما يبيع كتابٌ أكثر من ثلاثين ألف نسخة فاعلمي أنه سوء فهم».