كان من الأجدى على المُحرر إثر تقديم مجموعة غادة نبيل الشعرية «باسم غير مستعار» (منشورات المتوسط) أن يستبدل ملاحظته التمهيدية: «تستخدم الكاتبة مفردات من العامية المصرية إضافة إلى إشتغال تجريبي بصري في مجمل الديوان وأحياناً يركز بشكل خاص على دمج الكلام عبر إلغاء علامات الترقيم» بأخرى أكثر قُرباً وتناغماً مع نصوص الشاعرة. فالتجريب إذا ما احتاج إلى توضيح مُتعمّد، أو تفسيرٍ مقصود لكشف الإضمار وتفكيك المُبهم بغية جعله مفهوماً، متحرراً من ألغازه، يكون قد فَقَد هويته. ما هو جائرٌ مثلاً، في حال كان التنويه شرطاً لتحذير القارئ مما هو قادمٌ عليه، أن تكون النصيحة من قبيل أن هذا الكتاب ليس مخصّصاً لأصحاب القلوب المرهفة الذين يرون في الشعر فسحة نقاهة.

ذلك أنّ غادة نبيل تلقي بنفسها في النص، تطبع ذاتها بدون مواربة، باسمها الخاص- كما جاء في العنوان- غير آبهة بقارئ مرجوّ أو اَخر متخيل، بل لنفسها أولاً وآخِراً. حاملة هذا الاسم، ذات غائرة في التجارب، مكلومة من فظائع الأعراف، نبرتها حادّة، جملها مسنونة، وبالتالي من الطبيعي أن تنتج صاحبته نصاً متوتراً، لاذعاً، مفعماً بالحركة، يلدغ القارئ تلقائياً، عند الوهلة الأولى، كمن يباغته تيار كهربائي ويصعقه فجأة. كتابة غادة نبيل غير سهلة، ليس لأنها تضع في السياق كلمات في العامية مثل «فشيخ/ يفرفط/ تطرطش»، بل لأنها تنتمي إلى مدرسة الأسلوب، مجسدةً إحدى قواعد جيل دولوز في كيفية الاستحواذ على أسلوب عظيم، أي إخضاع اللغة لمعالجة إرادية، غير مصطنعة، تستنفر كل ضرورات الكاتب وأمنياته ليُركب جملة أصيلة.
تخلق قصيدة غادة نبيل من رحم المعاناة؛ بعملية تشبه استخلاص الحكمة بالمعنى السقراطي، من خلال التوليد. إلا أن الفاعل في هذه العملية ملتصق بفعلته، ما يعني امتزاجاً مطلقاً بين كاتبة النص ونصها، ما ينعكس بدوره على التماهي بين الشكل ومضمونه، فتستعين الشاعرة بذاكرتها حيناً لتحكي عن خبراتٍ شخصية مَضت، وتُقحم المتخيل على ما رأته كشاهدة حيّة من تجارب وأوضاع واقعية أحياناً: «فأنا أؤرّخ الزمن من خلال حدثين، الحب وموت أبي». وفي كل هذه الألاعيب الكتابية، هنالك نقطة ارتكاز أساسية تنبثق منها نصوص غادة نبيل، وتشكل فضاء هذا الكتاب، هو وضع المرأة العربية ومعاناتها. بالأحرى معاناتهن، لأن الشاعرة أيضاً في صلب الحدث «شيئاً فشيئاً، أصبحن لا يسمعن الموسيقى، يرمين في الإنبوكس فيديوهات عذاب القبر، وأضحت خطواتهن كخطوات الصخور». ومنه: «الأنوثة الكاملة والأمومة الكاملة، من اخترع هذه الكلمات، وسقاها لبويضاتنا التي تاهت؟ سكتنا». وفي خضم هذا الجوّ الحانق، السوداوي، تشاكس غادة نبيل عبر شعريّة ساخطة السلطةَ، وما يندرج منها من سلطوية بكلّ أشكالها (دينية، ذكورية وموروثة) من خلال مشهديات حفرتها كلماتها نتيجة ما اكتشفته «هي تتحمل الإهانة في أثناء الجماع، من أجل طفل». وفي قصيدة أخرى «أما حين تكون السيدة هي القصيدة، فليس مطلوباً غير أن تكون مغطاة بالزفت، بلا لغة، كشيء مهزوم». ومن هنا نجدها تحمل كفاح المرأة، تتبنّاه، وترفعه كقضية مقدّسة على عاتقها لحدّ يصلح أن يكون كتابها بياناً نسوياً تأسيسياً لإقحام الشعر في عملية المنازعة والصراع «أحمل على جلدي عيون كل النساء بوجوه مغطاة، في مساحة اغتصاب متكرر، لأشعر أنّي اخترت الاغتصاب».
نص أشبه بساحة انتقام مفتوحة على اختلاف المضامين، بدءاً بإعلان العصيان، وصولاً إلى الهرطقة


هكذا يغدو نص الشاعرة ساحة انتقام مفتوحة على اختلاف المضامين، بدءاً بإعلان العصيان بشكل صريح وصولاً إلى الهرطقة (كما يرد بالحرف). يكمن هذا العصيان المتمرد بشكل مباشر، حين تتهكم غادة نبيل «على كل من النقّاد، الشعراء وصولاً إلى القراء، على ما يرمزون به من مواقع تسنح لهم إطلاق الأحكام والمعايير إما بالفطرة أو بالتعمّد: «أتف عليكم وعليكنَّ وعلى نفسي. تخرون كالعجول في إسطبل مهجور منتظرين نتيجة لائحة ما، سواء أكانت للقراء النقاد أم لمانحي الجوائز. نسيت وقرأت القراء «القرَدَة»». ولا يسلم الأديب الخالد الذي حوّله التاريخ إلى أسطورة مقدّسة، من نقدها اللاذع، فتأتي قصيدتها عن «ماركيز» لتعلن ضرورة فعل الكراهية: «ربما الكراهية فعل يحتاج إلى تحديث، كصفحاتنا على فايسبوك، وماركيز يقترب من أن يصبح كلاسيكياً، يشعرني أني صرت كلاسيكية، أو أكتشف كلاسيكيتي السابقة». وتكون بذلك قد طبّقت نصيحتها على نفسها، كما جاء في قصيدة لاحقة «مهمٌّ أن تتعلّم كتابة قصيدة كراهية جيدة، كلما زادت سُميَّتها، تطمئن على قصائد الغرام». كما أنها تتهكّم باستفاضة على مفهوم البطل/ البطولة في محاولة منها لتزعزع السلطات من مفهومها الواعي وتفكك حاضر قوتها «على القرّاء أن يحبّوا الروايات التي تنغلق على أبطالها، أن يتخيّلوا أنفسهم أولئك الأبطال، عليهم تصديق أن ألدوس هاكسلي كتب «الجزيرة» وشكسبير كتب «الملك لير». هذه الحقائق تعني وجود الله وتساعد على النوم».
استناداً إلى هذه التعرية الفضّاحة، تكون الشاعرة قد ثأرت من هذه الدعائم التي هشّمت المرأة وأرست نفسها قوى قيّمةً ووصيّة عليها. تفضي نصوص غادة نبيل وينسرب بعضُها في بعض بأسلوب سرديّ مكثّف، نثري مُحتدم، تنطلق من الأشياء المتمَثَّلة أمامها لكنها لا تتوقف عندها؛ مهمتها التوليد، فتنقب في جوهر الأشياء وتسحبها خارجاً كما يفعل شخص يرى شخصاً آخرَ بالعاً لسانه. إنها تقف في المنتصف «الذين أحبوا الحقيقة مشوا، والذين كرهوها مشوا. هكذا لم يبقَ أحدٌ يخبرنا ما جرى للمجانين». وتُنفذ مهمة الوسيط؛ لسانها تعبيري حدّ الهذيان، يأخذ من الشعر قدرته على التصييح عالياً، ومن شكله كما يحمل من ميلاد جديد «مرة ستكون بومة تعيد حكاية التي عشقت، فتكالبت أيديهم، واضعة رأسها في دلو ماءٍ، ومرة ستكون قسّاً، يسامح الربَّ على خلق الجنّة، ومرة ستكون قصيدة». لكن الشعر، مثلها في الوسط، أي يبقى غير كاملٍ. فعلٌ ناقص على الرغم من وجوبه «الأشياء التي أفوّت من أجلها الشعر، وتجعلني أكثر إنسانية، كان يمكن أن تحوّلني إلى طبيبة أو راهبة أو بائعة جسد كلاس». وبهذا الشكل يحمل الشعر الحقيقي بالنسبة إلى غادة نبيل الإمكانات التي تزخر بحياة أرفع شأناً من هذا الواقع المرير، وأبسط من تعقيداته وأوضح من كذبه وزيفه، لتنهي نصوصها بجملة نهائية، بريئة وشفافة، تكاد تشبه الوصية «لا أرغب في قول شيء ذكي. أرغب في قول، إن رائحة النعناع في الأرض عظيمة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا