أتى عابراً للطريق. انقضى زمن طويل وهو يدكّ خطواته دكّاً. تثاقلت عليه عقارب الساعات حتى سئم من هلوستها.استبدَّ به الجوع على حين غفلة. أشعره بآلام حادَّة كأنَّها شفرتا مقصّ صدئ، ما أغضب أساريره فانكمشت بشكل رهيب.
لم يحط بماهيَّة ما يحدث معه اللحظة. فكره، قلبه، وجسده لا تقرّ إلا بشيء واحد. اشتهاء أكل الموز.
— لماذا الموز؟
كاد يجنّ وهو ينبش في متاهاته عن سبب وجيه ولم يستسغ حالة الارتباك والريبة. حتى إنَّه قاوم بصعوبة فكرة خرقاء داهنته، قائلًا لنفسه:
— أنت لست بامرأة حامل عذَّبها الوحم!
ضحك بصوت خافت حتى لا يحسبه المارّون مجنوناً.
نظر من هنا. نظر من هناك.
على جنبات الطريق، دكاكين كثيرة ومتنوّعة غير أنَّها لا تبيع الفاكهة. تذمّر طويلاً قبل أن يتراءى له دكان صغير محشور بين عمارتين عملاقتين، كُتب فوق لافتته الخضراء المزركشة بحواشٍ صفراء ذهبيَّة: «هنا نبيع الموز». هرع بسرعة فاقت سرعة المركبات. لم يثنه سيل الشتائم والكلمات الخليعة المنهمرة من أصحابها ولم يعرها أذناً.
ولكن صاحب الدكان اعتذر متبسماً:
— آخر موزة أخذها أحدهم قبل دقائق.
حرَّك رأسه في تذمّر ثمَّ حكَّ بأصابعه الطويلة ذقنه الأمرد. فكَّر أن يجتثّه من خلف طاولته بلا هوادة. أن يلعنه بأعتى الألفاظ وأشرسها. أن يعيّره بحجم دكانه بين العمالقة، وهذا أخفّ ما لديه. غير أنَّه تريّث زمناً راجع نفسه فيه ثمَّ كظم غيظه بعدما لاحظ جحوظ عينَي الرجل وارتعاش يديه من الذعر.
— ما ذنب الدكان وصاحبه؟
ازداد تذمّراً وسخطاً ثمَّ تساءل متأفّفاً:
— ماذا يحدث لي؟ هل سيجعلني اشتهاء الموز وحشاً؟
خرج يدكّ الأشياء الملقاة على الرصيف دكّاً ويضرب بعضها الآخر حتى أبعد نقطة من هذا الطريق. ثمَّ توقف كأنّ مسّاً كهربائيّاً أوقفه عن الحركة.
«معرض للفن المعاصر».
شدَّ انتباهه الإعلان العملاق مغطياً البناية الفاخرة ذات الواجهات الزجاجيَّة. وسرعان ما غمرته سعادة لا توصف فرفع يديه شاكراً لله.
— وهنا موزتي.
نظرة واحدة كانت كافية. نظرة ثاقبة كنظرة النسر وهو يحلّق في العلياء. قدّر له أن يصطاد موزة صغيرة ملصقة على أحد حيطان المعرض. فاقعٌ لونها يسرّ الناظرين. لم يطل به التفكير كثيراً، إذ أسرع إليها لاهثاً دون حسيب أو رقيب. تجاوز الجميع كأنَّه ريشة في مهبّ ريح عاتية. لم يلتفت يميناً ولا شمالاً. أخذها دون أن يُلقي سلاماً على أحد ثمَّ أزال قشرتها وأكلها بنهم وسط ذهول المتفرجين.
— أمعقول؟ هذا الوحش!
جرى أحد الحرّاس إليه مشدوهاً ونهره بشدَّة:
— ماذا فعلت أيّها الغبي؟ لقد أكلتَ للتوّ أغلى موزة في العالم!
— إنَّها لذيذة!
— يا معتوه! ألم تسمعني؟ إنَّها بيعت بــ 120 ألف دولار!
لم يكد ينتهي من التهام الموزة حتى فوجئ بكاميرات التصوير تحاصره من كل زواية، فأدرك فداحة تصرّفه:
— كان الحارس صادقاً. الموزة كانت تمثل لوحة فنيَّة.
ثمَّ سمع أصواتاً غاضبة تتعالى من هنا ومن هناك:
— صاحبها الفنان الكبير يقول إنَّها تمثل الإمبرياليَّة.
— العولمة.
وأمام نظراتهم الكاسرة أخذ يتوارى خلف ابتسامة بلهاء:
— جعتُ فأكلت، ليس إلا.
ظنَّ الجميع أنَّه سيعتذر لكنَّه لم يفعل، بل تحدَّث إلى أحد المراسلين في زهو قبل أن يقتاده الحارس إلى مركز الشرطة:
— لم يكن فعلاً تخريبيّاً بل كان تذوّقاً للفنّ من قبلي، ولستُ آسفاً. وهذه اللوحة كانت لذيذة فعلاً.
وشوهد المراسل يصرّح صارخاً بينما يتعقَّب سيَّارة الشرطة بطريقة هيتشكوكيَّة:
— لقد تمَّ القبض على الرجل الذي أكل الموز. وقد علمنا أنَّ هيئة المعرض وضعت مكان الموزة المهدورة موزة أخرى. وسط حراسة شديدة من الدرجة القصوى. وهذا منطقي. فالجميع بات يعرف بلا شكّ أنَّها أغلى موزة في العالم.
* بسكرة/ الجزائر

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا