كان الروائيّ والنّاقد الأميركيّ وليم غاس قد أقرّ عام 2006 بمرارةٍ ممزوجةٍ بإعجابٍ موجع أنّ روائيّي أميركا اللاتينيّة «أصحاب (بيت) الرواية. أما نحن الآخرين فنجرّب فيها بين حينٍ وآخر، نحن مستأجِرون». خمسة عشر عاماً تكفي لقلب المعادلة بأسرها. تضاعفت لعنة «البست سِلر» مع ظهور «نتفليكس» وأخواتها حين باتت المحكّ الأكبر في فرض بوصلة الأدب. الأدهى أنّ الأمر ليس مقصوراً على الأدب الأميركيّ فقط، بل امتدّ التأثير ليشمل حتّى أدب أميركا اللاتينيّة الذي كان يتباهى بمردته الذين لا سبيل إلى منافستهم. عربياً، كان أدب أميركا اللاتينيّة يعني علامة جودة حتميّة بوجود صالح علماني. رحل علماني، وظهر مترجمون آخرون لا يقلّون أهميّة عنه، بل لعلّهم أوسع اطّلاعاً، وأشدّ نشاطاً (نعم، كنّا نعدّ الأمر مستحيلاً)، والأهم أنّهم أنصع عربيّةً، وأشدّ حذراً حيال مسخ أساليب الكتّاب المتنوّعة، ولكنّ الأدب تغيَّر.

مارك جمال إحدى علامات الجودة الأحدث اليوم، خصوصاً وهو يمتلك برتغاليّةً تضاهي إسبانيّته. لكنّ لعلامة الجودة جانبها السلبيّ حين يُضطر المترجم إلى ترجمة أعمال متفاوتة المستوى، لا من ناحية الترجمة بل من ناحية الكتابة في ذاتها. ولذا يبدو جمال، أحياناً، أهمّ من ترجماته، مثله في هذا مثل معاوية عبد المجيد عن الإيطاليّة. ولكنّ المرء لا يحلم بروائيٍّ من مستوى إيتالو سفيفو أو ماتشادو دي أسيس كلّ يوم، ولا يودّ - حتماً - أن يعيش المترجمون الممتازون على الكفاف في ظل ظروف النّشر السيئة. لا بدّ من أعمال أقلّ مستوى من الأعمال العظيمة، ولا بدّ لمطحنة النّشر أن تواصل عملها.
تُقرأ رواية «روساريو» (1999) للكولومبيّ خورخي فرانكو (انتقلت أخيراً إلى العربية عن دار «ممدوح عدوان» ومنشورات «سرد») ضمن هذه العدسة تحديداً. رواية تضمّ جميع التوابل اللازمة للانتشار: المخدرات، الجنس، المرأة المُغوية، العنف، من دون أن يكون صاحبها بارعاً بما يكفي لضبط مستوى الرواية كيلا تنزلق إلى مستوى «أفلام B». لا تخلو الحياة من هذه التوابل بطبيعة الحال، بل لعلّها تنزلق شيئاً فشيئاً لتصبح هذه المظاهر الهامشيّة هي المتن، إلا أنّ الكتابة عن هذه المظاهر تفترض عيناً واعية تُحاذر الوقوع في مطبّ التوصيف من أجل التوصيف، أو الإثارة من أجل الإثارة. الكليشيهات سيّدة الموقف في هذه الرواية القصيرة التي كان يمكن لها أن تكون أفضل. معظم مشاهدها مُصطنعة وكأنّها مسروقة من صورةٍ عن الحياة، لا مستمدّة من الحياة في ذاتها. يظنّ القارئ للوهلة الأولى أنّ الارتباك الذي يسم السّرد خدعة سرديّة يستند فيها الكاتب إلى راوٍ غير موثوق به، وإلى شخصيّات غامضة، وإلى تداعيات ذاكرة فوضويّة، إلا أنّ واقع الحال يتكشّف بعد منتصف الرواية حين تتمرّد الشخصيّات على كاتبها، ويبدأ تخبُّط وتكرار لا ينقذنا منهما حتّى روساريو نفسها التي هي بحقّ سيّدة روايتها.
تُذكّرنا روساريو بشخصيّة أنثويّة أخرى هي بلانش دوبوا في مسرحيّة تِينِيسي وليامز «عربة تُسمّى الرغبة». كلتا المرأتين منذورتان للموت، أو ربّما مخلوقتان للموت في دنيا تتلاحم فيها دوافع الحياة والجنس والموت، إلا أنّ الفوارق كبيرة، لا بين الشخصيّتين بقدر ما هي بين الكاتبين.
رواية تضمّ جميع التوابل اللازمة للانتشار: المخدّرات، الجنس، المرأة المُغوية والعنف

وليامز أعمق بما لا يُقاس، ولذا لم تتمكّن بلانش رغم بهائها السّاطع من سرقة الأضواء من الشخصيّات الأخرى أو من سرقة المسرحيّة من كاتبها، حتّى لو افترضنا وجود تماهٍ مُغوٍ بين وليامز وبلانش. ربّما كانت دوّامة شخصيّة روساريو أعمق وأشدّ انحداراً لأنّ روساريو ابنة تلك الطّبقة المسحوقة التي لا سبيل إلى كسب اعتراف الطبقات الأخرى بها إلا بالعنف، إلا أنّ تلك الدوّامة ابتلعت فرانكو بقدر ما ابتلعت عشّاق روساريو الكثيرين. لا تتوق روساريو إلى الحب أو إلى استعادة الماضي، كما هي حال بلانش، إذ تدرك أنّ حياتها، مواصلة حياتها، لا تعني إلا تدمير الآخرين حتّى لو كانوا عشّاقاً. الحب يعني الدمار في دنيا روساريو. لعلّه كذلك أيضاً في دنيا بلانش، إلا أنّ بلانش أقرب إلى فراشة واهمة تظنّ النّور منجاةً، فتحترق قبل أن تدرك الحقيقة. روساريو أقرب إلى ليليت التي تولد وتعيش وتستمدّ حياتها وتموت (أو ربّما لا تموت برغم موتها الظاهريّ) حين تلتهم الآخرين، القريبين قبل البعيدين، الأحباب قبل الكارهين، العشّاق قبل الأعداء. لعلّ هذا التّشابه محض تأويل شخصيّ حين قرأتُ عبارة روساريو التي تنتبه فيها إلى تلاحم كلمتَي «الموت» (muerte) و«البَخْت» أو «النّصيب» (suerte). كنتُ قد انتبهت إلى هذا التّلاحم قبل أن أقرأ «روساريو»، حين كتبتُ عن بلانش التي تدرك هذا التّلاحم نفسه، وتُدمَّر بسببه. إلا أنّ روساريو لا تُدمَّر بسببه بقدر ما تكون هي - أيضاً - سبباً في دمارها الشخصيّ.
«وهناك تَقِرُّ ليليت، وتجد لنفسها مكاناً مريحاً»، كما نجد في «سِفر أشعيا»، وكما نجد في روساريو التي تمثّل تجسّد ليليت الكولومبيّ. تظهر ليليت بين الخرائب وفي العتمة محاطةً بالضّواري في مدينة أدوم التي سخط عليها الربّ وامتلأ سيفه دماً من أنقاضها. روساريو ابنة مدينةٍ أخرى، بل عالمٍ كامل، يشبه أدوم، بل ربّما تضخّمت فيه أدوم لتصبح العالم بأسره. عالم من العنف والدم والضّواري والمخدّرات والجنس تظنّ روساريو أنّه مكانها، وأنّها ستجد فيه مكاناً مريحاً مثل ليليت لمجرّد أنّها كانت أقوى من غيرها، أو قضت على معظم أعدائها، أو حملت اسم «المقص». إلا أنّ تلك العوالم كانت وما زالت محكومةً بالذّكورة، كما هي حال رواية فرانكو التي ترسم شخصيّة روساريو بعدسة الذّكور. لن نعرف أفكار وأحلام وذكريات روساريو الفعليّة لأنّها - برغم شخصيّتها الطاغية المرعبة - لم تحظ بفرصة التّعبير عن نفسها، بل بقيت أسيرة كليشيهات عشّاقها وكاتبها. لن نعرفها إلا حين نحاول تأويلها؛ حين نختلس التّفاصيل المبعثرة التي غفل عنها الكاتب وأبطاله الفحول؛ حين نقارن روساريو بغيرها. وهذه المقارنة تعني بالضّرورة ضعفاً في رواية فرانكو التي لا تقوى على الصّمود وحدها، حتّى بالاعتماد على عكّاز تهليل غارسيا ماركيز حين «مرَّر شعلته» إلى فرانكو. لعلّ تلك الشّعلة خبت، أو ربّما كانت عيوننا قد ضعفت ولا تتنبّه إلا لضوءٍ ساطع لا يبدو فرانكو قادراً على خلقه. رواية «روساريو» ممتعة، سريعة، جيّدة. ولكن لا بدّ من إضافة «فقط» هنا. هي الرواية التي ترجمها غريغري راباسا، عرّاب أدب الـ Boom في الترجمات الإنكليزيّة، وترجمها مارك جمال إلى العربيّة، غير أنّ ذاكرتنا ستُرفِق دوماً اسم راباسا مع كورتاسار وماركيز، واسم مارك جمال مع دي أسيس وخوسيه ثيلا، وليس مع خورخي فرانكو حتّى وهو خالق روساريو.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا