لدينا شهادات من بدايات الإسلام عن أن عدداً كبيراً من أهل مكة شهدوا عام الفيل. كما لدينا شهادات شخصية كثيرة عن أناس يدعون أنهم رأوا حجارة السجيل التي أسقطتها طيور الأبابيل على جيش أبرهة. بل هناك من ادّعى أنه رأى روث الفيل في طفولته. إضافة إلى ذلك، فهناك جمع كبير من أهل مكة رأى قائد الفيل وسائقه اللذين عاشا حتى أسنّا. وخذ هذه النماذج:«ولمّا تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة [سورة الفيل]، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة. ولهذا قال: ألم تر...؟ ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكفّفان الناس. وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة [حجارة السجيل]، سوداً مخطّطة بحمرة» (القرطبي، تفسير القرطبي).
رسم لحادثة الفيل، يظهر فيلة أبرهة حول الكعبة - من مخطوطة «كتاب العجائب» (القرن السابع عشر أو الثامن عشر) التي تضم قسماً مختصراً من «حياة الحيوان الكبرى» لكمال الدين الدميري (1341 – 1405)، ورسومات من «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» لأبو يحيى زكريا القزويني (1203 – 1283)

وخذ أيضاً ما قاله قباب الليثي عن رؤيته لروث الفيل طفلاً: «سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسنّ منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلاً أعقله» (تاريخ الطبري).
فكيف نتعامل مع هذه الشهادات؟ أمامنا طريقان في اعتقادي:
الأول: أن نرفض نهائياً الشهادات عن حجارة السجيل وغيرها مما لا يتوافق مع التاريخ والمنطق باعتبارها تزيّدات رواة واختراعاتهم.
الثاني: أن نقبل بهذه الشهادات باعتبارها شهادات صادقة حقيقية، بل تمثل جوهر عام الفيل الذي لا يمكن فهمه من دونها.
الغالبية الساحقة من المؤرّخين يسيرون على الطريق الأول. فهم يوافقون على فكرة غزو حبشي على مكة، يبدو أنه استخدم الفيلة. لكنهم يستبعدون حكاية حجارة السجيل والطير الأبابيل، وروث الفيل، وقائد الفيل وسائقه، كي يظل الحديث عن الغزو في إطار منطقي عقلاني. ثم يحاول هؤلاء البحث عن تأكيد ما لهذا الغزو في نقوش المسند اليمنية.
أما أنا، فميّال بشدة إلى الطريق الثاني، أي إلى أن هذه الشهادات حقيقية وصادقة، وليست من اختلاق الرواة، بل إنه لا يمكن فهم عام الفيل ومعناه من دونها. لقد رأى أصحاب هذه الشهادات حجارة السجيل بالفعل بأعينهم، التي ظلت موجودة في قففها حتى الإسلام، ورأوا الفيل وسائسه وقائده بعدما أسنّا وتكدّيا طعامهما أعميين، كما أن منهم من رأى خثى (روث) الفيل طفلاً.
لكنني أصدق هذه الشهادات على أرضية مختلفة جذرياً تقول إن «عام الفيل» ليس حدثا عسكرياً تاريخياً، بل هو عام ديني دوري كان يتكرر كل فترة معلومة لأهل ذلك العهد، وإن احتفالاً ضخماً كان يحصل في مكة عند حلول هذا العام، وإن المصادر الإسلامية التي تحدثت عنه كانت تصف الدورة الأخيرة فيه التي حدثت حول تاريخ مولد الرسول، أي في حدود سنة 570 ميلادية. فبعد هذه الدورة، توقفت الحياة الدينية الجاهلية التي نعرفها، وانتهت أعيادها الرئيسية، إلا تلك التي تبنّاها الإسلام. بالتالي، فالشهادات عن عام الفيل شهادات عن هذا الاحتفال، وليست شهادات عن حرب حبشية ضد مكة. وقد اختلط أمر هذا الاحتفال بفكرة غزوة أبرهة لهدم الكعبة. ولسنا ندري كيف حصل ذلك بالضبط. مع أن أبرهة ودولته كان قد أطيح بهما على يد الفرس عام الفيل، أو حتى قبله بسنوات.
المصادر الإسلامية التي تحدّثت عنه كانت تصف الدورة الأخيرة فيه التي حدثت حول تاريخ مولد الرسول، أي في حدود سنة 570 ميلادية


ووجود عام دوري يدعى «عام الفيل» ليس أمراً غريباً. إذ لدينا في الجاهلية سنة شهيرة جداً تدعى «سنة الحمار». وهي مرتبطة بنوم العزير ثم صحوه، أو بموته ثم بعثه. الفارق أننا نعلم بيقين أن دورة «سنة الحمار» كانت مائة عام. فعلى رأس كل قرن كانت تحل هذه السنة، ويجري الاحتفال بها، رغم أن وقائع الاحتفال ضاعت ولم تصلنا. في حين أننا لا نعرف مقدار دورة عام الفيل وإن كنا نعرف وقائع الاحتفال به بشكل دقيق من المصادر العربية عن الجاهلية.
إذن، فالشهادات عن الفيل وعامه هي صدى للاحتفال بعام الفيل، ولا يجب رميها إن كنا نود أن نعرف أمر أصحاب الفيل وأمر ديانة مكة قبل الإسلام. وسورة الفيل في القرآن تتحدث عن الحدث الأسطوري البدئي الذي أقيم على أساسه احتفال عام الفيل: «ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل؟ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجّيل، فجعلهم كعصف مأكول».
وبناءً على ذلك، فقد كان ناس مكة يعرفون بموعد حلول عام الفيل مسبقاً، وكانوا يستبقون حلوله ويحضّرون عدة الاحتفال به، أي تمثيل وقائعه البدئية: حجارة السجيل، الفيل، سائس الفيل، قائد الفيل، روث الفيل... وإذا لم يكن هناك فيل حقيقي في هذا الاحتفال، فيجب أن تكون هناك دمية تمثل هذا الفيل في اعتقادي.
هذا الفرض وحده يمكّننا من التعامل مع الشهادات العديدة عن رؤية الفيل وسائقه، وعن رؤية حجارة السجيل من قبل أناس كثيرين. ومن دون هذا الفرض، سنكون ملزمين بالاعتقاد أن هذه الشهادات من أباطيل رواة كذّابين. وهذا أمر غير معقول في نظري. إذ لا يمكن لكل هذه الأخبار عن الفيل وعامه، وعبر ألسنة كثيرين، أن تكون مخترعة، وأن تكون الشهادات عنه تدليساً وكذباً.
هذا يعني أن الشهادات الكثيرة حول سائس الفيل وقائده في مكة لا تتعلق برجلين من جيش أبرهة الأشرم نسيهما أبرهة في مكة، بل عن رجلين شاركا في تمثيل حادثة أصحاب الفيل البدئية، وظلا حيين حتى جيل عائشة بنت أبي بكر. ولو افترضنا أن سائس الفيل وقائده كانا في العشرين من عمرهما حين شاركا في تمثيل حادثة الفيل عام 570 ميلادية، وأنهما عمّرا حتى بلغا السبعين، فإن هذا يعني أنهما كانا ما زالا حيين حتى بعد البعثة بعشر سنين (أي في حدود 620 ميلادية)، أي حتى وقت قريب من هجرة الرسول إلى مكة. وهذا يعني أنّ مجايلي الرسول كانوا كلهم قد رأوهما، وأن أجيالاً أصغر منهم قد رأت هذين الرجلين أيضاً.
لقد رأت هذه الأجيال الرجلين اللذين مثّلا دور سائس الفيل وقائده، ولم يريا سائس سائق فيل أبرهة وقائده في غزوه الفاشل المفترض لمكة. بذا يمكن الافتراض أيضاً أن أدوات الاحتفال بعام الفيل كانت موجودة في مخزن لدى سدنة الكعبة، وأنه كان يجري استخراجها يوم الاحتفال. قفف حجارة السجيل كانت موجودة ومعدّة سلفاً، وربما كان أحدهم يرميها من فوق أسطح المنازل لكي تتساقط عل رؤوس أصحاب الفيل المفترضين. كما أن روث الفيل كان موجوداً سلفاً ربما على شكل حجارة خضراء ما، أو على شكل كتل طينية مصنوعة لتبدو روثاً. أما قائد الفيل وسائسه فقد كان يجري اختيارهما من أهل مكة كي يمثلا دورهما. وهكذا فالمسرح كان معداً تماماً لتمثيل الحدث الديني الدوري الذي حلّت دورته الأخيرة عند ولادة الرسول: عام الفيل.
وبالمناسبة، ليس هذا هو الحدث الوحيد الذي كان يجري تمثيله على المسرح المكي. فقد كان هناك حدث ديني أسطوري آخر يجري تمثيله على المسرح المكي، هو حدث تقطيع غزال الكعبة الذهبي. وهذا الحدث الذي كانت تشارك فيه مكة كلها معروض بكل تفاصيله عند ابن حبيب. وهذا الطقس المسرحي كان على علاقة بقصة الذبيح، وعلى علاقة بتكوين الحلفين الدينيين المركزيّيْن في مكة «حلف الأحلاف» أو «حلف لعقة الدم» كما يُسمى أيضاً، «حلف المطيبين»، الذي صار يُدعى «حلف الفضول» بعد خروج عبد شمس منه. وقد شهد الرسول الدورة الأخيرة من هذا الحدث في شبابه، وشارك في استعادة حادثة تكوين حلف الفضول. وهو بذلك لم يكن يحضر «تأسيس» حلف الفضول الأصلي، بل كان يحضر نسخة منه، أي يحضر تمثيل استعادته في الدورة الأخيرة في الجاهلية، بعدها توقّفت الأحلاف الجاهلية عن الوجود.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا