المحنة التي عاشها هشام مطر (نيويورك ـــ 1970) منذ طفولته إلى اليوم، بوصفه ابناً لأب مخطوف، ظلَّ مصيره مجهولاً وغامضاً إلى ما بعد سقوط النظام الليبي، منحته، في المقابل، مادةً أدبية شديدة الثراء والجاذبية، باستعادة وقائع سيرة مزدوجة: سيرة الأب الغائب، وصدمة الابن في غيابه. كان الأب أحد أشدّ معارضي القذافي، ما وضع اسمه في قائمة المطلوبين، ومطاردته من مدينةٍ إلى أخرى، إلى أن تمكّنت المخابرات الليبية من خطفه في القاهرة وإيداعه «سجن بو سليم»، أحد أكثر سجون طرابلس قسوةً. بدأت رحلة الابن في اقتفاء أثر الأب، وتالياً التعويض عن فقدانه بالكتابة عنه وبسببه. هكذا وجد الابن الذي درس هندسة العمارة في جامعة لندن، ويحمل الجنسية البريطانية، مدفوعاً إلى تدوين الخسارة بلغة الآخر.
(تصوير: ديانا مطر)

كان عمله الأول «في بلاد الرجال» (2007) إطلالته الأولى على بلاده التي غادرها مرغماً، تحت وطأة الطغيان. وفي عمله الثاني «اختفاء» (2011) سيضيّق فتحة العدسة محاولاً تشريح حادثة اختفاء والده، متعقّباً بعض الإشارات والرسائل المهرّبة من السجن عن مكان اختفائه، وتأريخ وقائع القمع الممنهج، ومعنى المنفى. وفي «العودة» (جائزة بوليتزر- 2016)، سيروي مكابداته في العودة إلى طرابلس بعد مقتل القذافي للتفتيش عن أثر الأب، وهل هو حيّ أم قُتل قبلاً في المذبحة التي شهدها السجن، منتصف التسعينيات؟ سوف تتناهبه مشاعر متناقضة تراوح بين اليأس والأمل والخيبة. هناك سينصت إلى عشرات القصص المؤلمة التي عاشها سجناء آخرون تمكّنوا من النجاة، في مقارنات بين بطش القذافي وتحطّم الآمال الديمقراطية ما بعد رحيله بسبب التمزّقات التي شهدتها البلاد. وإذا بالكتاب يتحوّل إلى «مرثاة للوطن والأب بضمير المتكلم»، بالتناوب مع سيرة الابن في توثيق طبقات الأسى والألم.
عمله الأخير «شهر في سيينا» (ستصدر طبعته العربية قريباً عن «دار الشروق المصرية»)، بمثابة نقاهة من العلل التي عاشها طوال أربعين عاماً: «سيتعيّن عليّ أن أعيش بقية أيامي دون معرفة ما حدث لوالدي، كيف أو متى مات أو مكان رفاته؟». رحلة بين أروقة متحف سيينا في ايطاليا، بقصد طيّ صفحة آلام الأمس، من دون أن يغادرها تماماً، والغرق في بهجة فنون القرون الوسطى، متأملاً تلك الكنوز التي لطالما شغف بها «تتغيّر الصورة وأنت تنظر إليها بطرق غير متوقعة، فالألوان والأنماط الدقيقة، والدراما المعلّقة بهذه الصور، أصبحت ضرورية لحياتي إلى الأبد». الوقوف ساعات طويلة أمام هذه الأعمال النفيسة، منحت الروائي البريطاني، من أصل ليبي، إحساساً مختلفاً إزاء الوجود الإنساني، إلى درجة أن المدينة تحوّلت إلى «كائن حيّ يتوسّع ويتمدّد مع كل خطوة أخطوها بداخله». ووفقاً لما كتبته «واشنطن بوست»، فإن هذه الرواية «تماثل في أسلوبيتها اللوحات العالمية، فهي تتمتع بالعمق والشفافية، تماماً كلوحات سيينا التي يعشقها الكاتب، وبها تلك اللمسة الناعمة في السرد، كلوحات الرسام الفرنسي ماتيس».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا