خمس سنوات مضت على رحيله، لم تُطفئ اسمه من الذاكرة، ذلك أن نبيل المالح (1939- 2016) ترك وشماً راسخاً في الثقافة السورية، ليس كمخرج سينمائي طليعي وحسب، وإنما كدينامو ثقافي متحرّك. كائن حالم على الدوام، لطالما اشتبك مع أكثر قضايا بلاده إشكالية. كان صاحب «بقايا صور» من أوائل السينمائيين السوريين الذين دافعوا بقوة عن «السينما البديلة»، محقّقاً قفزات نوعية في تظهير صورة مضيئة تنطوي على هموم وتطلعات جيل أراد أن يقول «لا» في مواجهة التخلّف والقمع والاستبداد. اليوم تستعيد كوكبة من السينمائيين والنقّاد العرب سيرته وأرشيفه السينمائي في شهادات حارة ضمّها كتاب جماعي بعنوان «العين الثالثة: نبيل المالح شغف الإبداع السينمائي» (دار كنعان)، حرّره قيس الزبيدي وسعيد البرغوثي. تبدو المسافة طويلة بين فيلمه «الفهد» (1972)، وفيلمه الأخير «كومبارس» (1993)، وما بينهما عشرات الأفلام الوثائقية اللافتة، لكنّ الفيلمين تركا بصمة خاصة، ليس في تجربة هذا المخرج الرائد، وإنما في تاريخ السينما السورية لنبرتهما المحليّة وقدرتهما على التأثير: صورة الفرد المتمرّد في الأول، وخيبة الفرد المهزوم في الثاني. كأنه يؤرخ لتحوّلات المشهد، وانطفاء الحلم بروح نقدية لاذعة وجريئة.


في «كومبارس»، سيكتفي بمساحة غرفة تضم عاشقين، يتسلل الخوف إليهما تدريجاً، إلى أن تتحوّل الغرفة إلى قفص بقضبان خشنة، وإذا بهذا الشريط يتحوّل إلى علامة نافرة في السينما السورية، وإشارة صريحة إلى قوة الهامش وخصوصية البلاغة البصرية التي تشعّ في نسيج السرد، بعدما استغرقت هذه السينما طويلاً بأفلام السيرة الذاتية لمخرجيها: «اكتشفتُ فجأة أننا نعيش في عالم عربي فيه 250 مليون عربي من الكومبارس، وأن بطل فيلمي أعزل لا يملك سوى الوهم» يقول.
في أرشيفه 12 فيلماً روائياً، وعشرات الأفلام التسجيلية، وعشرات المشاريع المجهضة... لكنّ هذا الكم من الأفلام لا يغريه بالركون إلى منجزات الأمس حتى لو انتهت هذه المشاريع إلى الأدراج: «أرغب في أن أعيش حالة ابتكار وتجدّد دائمين، من موقع الاختلاف لا التراكم» يقول.
سندباد سينمائي عاش سنوات طويلة في منافٍ اختيارية، من براغ الخمسينيات إلى أثينا الثمانينيات، ليموت في منفى آخر ويُدفن في دبي، من دون أن يتخلى عن مغامرته يوماً، حتى إنه لم يتردّد في إنجاز فيلم أخير مدته دقيقة واحدة بعنوان «فلاش»، وهو أقصر فيلم روائي. في شهادته حول سينما صاحب «اكليل الشوك»، يقول قيس الزبيدي: «قدّم موديلاً لفيلم بديل عمّا هو سائد، ونجح في أن يلهم جيلاً من صنّاع الأفلام لينجزوا مهمة السينما البديلة، والذين واجهوا أيضاً عقبات لا تُحصى». ويشير هوفيك حبشيان إلى أن نبيل المالح سعى إلى تأصيل هوية سينمائية عربية «لكنه اكتشف أنه يقاتل في جبهة وحده». ويرثيه محمد ملص بوصفه معلّماً لجيله، وها هو يستعيد فيلمه «كومبارس» بقوله: «لم يكفّ يوماً عن أن يرمي نفسه في جحيم السينما، خطوةً وراء خطوة، ليؤسس خطّاً جديداً في السينما السوريّة، وصولاً إلى تحفته «كومبارس»، واضعاً لمسته على أكثر القضايا إشكاليةً بجمالية بصرية متفرّدة». ويضيف: «ها نحن اليوم نكتشف نظرتك الثاقبة إلى ما نحياه من ضيق في الأمكنة والأرواح، ونعجز عن صوغ أحلامنا خارج الأمكنة الضيّقة بشروط قاسية وصعبة ومحدودة، بعدما حُرّمت علينا حركة الشارع، وحرّمناها على أنفسنا بوجود حَمَلة السيوف. كنت حرّاً وهذا ما نفتقده نحن اليوم».
سندباد سينمائي عاش سنوات طويلة في منافٍ اختيارية


يختزل نبيل المالح المحن التي واجهته في صناعة سينماه بقوله: «اكتشفتُ أنني أعزل، وكنت أعتقد أن تاريخي يمنحني الحصانة، ولكني في محيط يشبه قصص كافكا لجهة اللامعقول والعفونة». وسوف يختار صاحب «نابالم» عنواناً موحياً لسيرته هو «كأنني أبدأ اليوم» يعود فيها إلى حادثة مؤثرة في طفولته: «كنتُ في الثامنة عندما صفعني جندي، لأنني قلت لا، رافضاً التنازل عن دوري في ركوب أرجوحة في منتزه عام، ووضع مكاني ابن سيّده الضابط... لم أبكِ... ولم أشكُه لأحد. وجدت حجراً صغيراً، رميته به، وهربت». ولكن ما هي السينما التي تستهويك؟ يجيب: «هناك اثنان فقط هما القدوة في العلاقة بالسينما، وليس كمدرسة سينمائية، إنهما برغمان وفيلليني، فهذان المجنونان الرائعان أنجزا أعمالاً لا تُنسى ولكنّ تميزهما هو في بحثهما. فبالرغم من كل ما أنجزاه، كل على حدة، فإن أحداً منهما لم يكرّر نفسه، وإنما كانا يكتشفان دائماً أشكالاً تعبيرية جديدة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا