مقالات مرتبطة
-
رسول الـ fake news ينتصر للحكايا أحلام الطاهر
هنا مقطع من كتابه «كيف نتحدّث عن وقائع لم تحدث» (2020) الذي يصدر قريباً بالعربية (ترجمة قاسم المقداد) عن «دار نينوى»
هذيان أناييس: مذكّرات مزدوجة
يستحيل تقديم لوحة شاملة عن الحياة العاطفية لكاتبةِ مذكراتٍ شخصيةٍ مثل أناييس نن بسبب ما يكتنفها من تعقيد؛ لكن قراءة مذكراتها، والسيرة التي خُصَّت بها، من دون مجاملة، ديردر بير، تتيح لنا تكوين فكرة عنها. تقدم لنا فترة ما بين الحربين مثالاً نوعياً على هذا التعقيد. كانت أناييس متزوجة من المصرفي هوغ غويلر، ثم التقت هنري ميللر وارتبطت معه بعلاقة غرامية مُحتدمة لسنوات نجمت عنها مراسلات شهيرة. لكن خلال السنوات نفسها، تعلّقت بفنان لاجئ إلى فرنسا من بيرو مع زوجته غونزولا موريه التي ارتبطت معها أيضاً بعلاقة عاطفية طويلة. في الفترة نفسها، خضعت لتحليل نفسي لدى رونيه الليندي- مؤسس «جمعية باريس للتحليل النفسي»- عاقدة النية على إغرائه، فأصبحت عشيقته. كان الليندي يُذكّرها بوالدها يواكيم نن الذي هجر عائلته وهي في عزّ شبابها، لكن الأب عاد للظهور فجأة، فكان لظهوره هذا وقع الصاعقة عليهما، فأصبحا عاشقين. أهملت أناييس الليندي، وتعلّقت بمحلل نفسي آخر هو أوتو رانك فعلّمها التحليل النفسي وساعدها على افتتاح عيادة خاصة في نيويورك لفترة من الزمن.
هذه الخريطة المختصرة لحياة نن العاطفية خلال فترة ما بين الحربين، لا تهتم بالغراميات العابرة ولا بالعلاقات المثلية ـــ ولا سيما مع صاحبات عشاقها ــ التي بقيت حذرة في التصريح بها. هذه الطوبوغرافيا الغرامية لا تهدف إلى الكمال، بل تسعى فقط إلى وضع الديكور وتوضيح الصعوبات التي واجهت نن طيلة حياتها، سواء من أجل تنظيم حياتها العاطفية، أو القيام بعملها ككاتبة على نحو أفضل في الوقت نفسه. هذه الحياة العاطفية المركبة اضطرت نن، بحكم الظروف، إلى الاستمرار في اختلاق حكايات خرافية موجهة إلى أصحابها: «أستيقظُ صباحاً وأنا أغنّي لأني أعرف بأنهم ناموا بعمق، تهدهدهم أكاذيبي، أكاذيبي الدائمة الجميلة؛ أكاذيب ضرورية، مُختلقة، أو أشبه بحكايات الجنيّات». إن حياة عاطفية مشوّشة كهذه تتطلب وضع لوجستيات متطورة، ولا سيما في مجال الكتابة. بعدما اكتشف زوجها مذكراتها الخاصة التي تبوح فيها بخياناتها، قالت له نن من دون أن يعتريها الاضطراب إنها مذكرات مُتخيّلة: «ما قرأته ليس سوى مذكراتي المتخيَّلة. كل ما فيه اختلاق، لكي أشكل كل ما لا أعيشه – صدقني، أنا وحش، لكن في الخيال فقط. يمكنك قراءة المذكرات الحقيقية حينما تريد». هكذا وجدت نن نفسها مضطرةً، كي لا تكشف نفسها، إلى كتابة مذكرات ثانية موازية بعدما حذفت منها قبل ذلك، جميع المقاطع التي تدينها. مذكرات تمنحها إمكانية الكذب كما يحلو لها، وأيضاً لتكشف في ذهنها عن تنوعها لغويلر بعد موتها، من خلال عرض عدة أشكال عن نفسها عليه. «الشخص الوحيد الذي لا أكذب عليه هو مذكراتي. وقد أكذب من خلال الحذف، من باب العطف. ويبقى الكثير مما سأحذفه. الحقيقة موجودة في المذكرات. وكل ما يوجد خارجها عبارة عن هذيان. [...] أتشبث بهذه الحقيقة المكتوبة يوماً بعد يوم. وإلا سأصبح ضائعة، ضائعة، ضائعة». بناءً على ما سبق، فإن التوزيع واضح بين الأكاذيب اليومية الناجمة خلال المحادثات والموجهة للزوجين والعشاق، وأصالة المذكرات المكتوبة، التي حرّرتها لنفسها لتحاشي الضياع في تعددية انعكاساتها الشخصية. ربما تهدف المذكرات، من هذا المنظور، إلى تقليص التعددية النفسية، وتنوّع الأكاذيب عبر خلق مكان مثاليّ يختفي فيه الانشطار، وحيث يمكن أن ينشأ شكلٌ من الحقيقة عن الذات. في الواقع، هذه المذكرات أبعد ما تكون عن وعاء يتضمن حقيقةً كاملة. فضلاً عن هذا، رأينا أن نن تكتب أحياناً عدة مذكرات في الوقت نفسه: «إن متّ يوماً وقُرئت النسختان من المذكرات، من منهما أنا؟». إنه من العسف مقابلة حياة نن الخاصة، بوصفها فضاء للتزييف، بالمذكرات المعروضة باعتبارها مكاناً لقول الحقيقة. لأنها في الواقع، موضوعُ بناءٍ مستمر. وقد بيّنت ديردر بير أن المذكرات لم تكن بمأمن من الاختلاقات اليومية، بل تخضع لتعديلات كانت تجريها عليها نن عبر السنوات وتبعاً لتطوراتها. هذا العمل الذي قامت به لإعادة صياغة مذكراتها قادها إلى إتلاف الكتابات الأصلية، باعتبار أن كل نسخة جديدة ستكون النسخة الأولى. وهكذا، فإن قارئ المذكرات الذي يفترض أن يكون، خلافاً لعشاقها، الوحيد المالك للحقيقة مخدوعاً بعُدة مغرية، بُنيت وفقاً للمبدأ نفسه الذي بنيت عليه الخرافات التي تغذي بها المقربين منها كل يوم. ما تُبيّنهُ مذكرات أناييس نن، التي يفترض أن تكون المكان الطوباوي لإعادة التجميع، يكمن في الصعوبة الكبيرة في تثبيت صورة ذاتها هذه أمام الأجيال القادمة، وهي الصورة التي حاول سان- جون بيرس تثبيتها عن ذاته من خلال اختراع شخصية داخلية. ومحاولة تثبيت هذه الصورة يعني الاضطرار إلى إعادة كتابة لا تنتهي، لأنه لا يمكن لأيٍّ من هذه الحقائق العابرة أن تكون قادرة على منح شعور مُلَطِّف للتعايش مع الذات.
يتعقّب نصوصاً كانت وثائق دامغة، ويفضح «أكاذيبها»، معتبراً إياها التوابل التي يضيفها الكتّاب إلى سردياتهم
هذا العجز في اللغة وما ينجم عنه من ألم يقودان إلى افتراض وجود قوة لا واعية في داخلنا تحرّضنا على العودة الدائمة إلى ماضينا، القريب أو البعيد، في محاولة منا لإضفاء شكلٍ مؤقت من التجانس عليه. وتشبه عشرات آلاف الصفحات التي تتكوّن منها مذكرات نن، صور المراسلات المتخيّلة التي وضعها بيرس لنشاطنا الداخلي اليومي من أجل ترتيب حياتنا الماضية. إنها تبيّن ما يمكن تسميته الغريزة السردية وهي بصدد العمل، والتي تعيننا على تحمل حركيّتنا النفسية عبر حقنها بالتجانس والمعنى، كما يفعل المسرود الواضح للحلم عند الاستيقاظ. هذه الحاجة الملحة إلى القصّ - سواء طُبِّقتْ على النهار الفائت أم على السنوات المنصرمة - تعد دافعاً أساسياً لعمل نفسيتنا، التي يعود إليها الفضل في حمايتنا من التشتّت.
لا شك في أن هذه الغريزة ــ التي تُفضَّلُ إضافتها إلى قائمة الغرائز الفرويدية الأساسية ــ لا تنحو في جوهرها إلى الاختلاق. لكنها ملائمة بسبب استحالة إدخال عدد الأحداث وتنوعها في اللغة، لما تقدمه أوهام الخيال من صورة مقبولة للأحداث المبعثرة التي تتكون منها الحياة.
من دون افتراض وجود هذه الغريزة السردية ـ التي نراها تعمل منذ الطفولة والتي لا يصحُّ اختزالها بالكذب ــ يصعب فهم جميع هذه المسرودات الوهمية التي تُبهجُ بها شخصيات هذا الكتاب جمهورها، من خلال انضمام هذا الجمهور المتواطئ في أغلب الأحيان، وهو مسرور بوحدة الواقع هذه التي تريح النفس.
وفي حال كانت نن ترى نفسها شخصية مجزّأة، فالأمر نفسه ينطبق على الرجال الذين تشاركهم حياتهم، والذين نخطئ إن وصفناهم صادقين كلياً في مقابل كذبها. وتالياً ما كان للحياة العاطفية المتعددة، كالتي عاشتها أناييس نن أن تكون لولا تواطؤ أولئك الذين يفترض أن يكونوا مخدوعين. والاحتمال قليل جداً في أن يكون مختلف أزواج نن وعشاقها يجهل بعضُهم وجود بعض لفترة طويلة، مع وجود هذه المتناقضات، والاستخدامات غير المعقولة للزمن. وهكذا، لا يمكن للغريزة السردية أن تنتشر بكل قوتها، من دون أن تصطدم بالحذر أو العداء إلا لأنها تلاقي جمهوراً متسامحاً لدى ناشري المسرودات، غير عابئين بأن يقدم أحد لهم النصيحة فعلاً، لأنهم متشبّثون براحتهم النفسية، وببهجة الوهم الخلّاق.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا