تتحرّى رواية «الأعمال غير المكتملة لكيفورك كساريان» (نوفل) للكاتب والفنّان فادي توفيق حقيقة مُخرج غاص في التفكّر في الحرب اللبنانية (1975_1990)، وناسها من «الناجين»، أثناء سريان مسلسلها المتعدّد الأجزاء، كتابةً وتصويراً وتسجيلاً وبحثاً... تُسائل أعمال كيفورك كساريان - الشخصيّة المتخيّلة في الرواية - وقراءاته، المنطق الأهلي «المبتور»، الذي غالباً ما صنّف الناس خلال الحرب ضمن فريقين: فريق المقاتلين، وفريق الضحايا الأبرياء، بدون التفاتة إلى التداخلات بين الطرفين. تحقّق الرواية في مفهوم «البداوة القسريّة» الذي عاش الناس وفقه، مبدّلين عناوينهم مراراً وتكراراً، ومتخفّفين من متاعهم، رغم التحسّس من نعتهم بالبدو، وتستفهم عمّا إذا كان الناس يعون موقعهم في هذه الحرب.

لم يفت كساريان تقريع أفلام معظم السينمائيين عن الحرب. السينمائيون الذين ــ بحسبه ـ لم يفهم معظمهم حاضر الحرب. هل على السينما أن تتخذ من الواقع الصحافي مرجعاً أو وسيطاً في صنع صورتها؟ يسأل كساريان، مستشهداً بصور صحافية «مفتعلة» كانت تبغي صبغ أحداث الحرب اللبنانية بصبغة درامية مضاعفة، مزيّفة أو ناقصة، أبطالها الأطفال، وبمرويات صحافيّة وأفلام كانت تكتفي بنقل أخبار المتحاربين ومعاركهم، مع دفع الناس من «الناجين» إلى الهوامش.
كل أعمال كساريان عن بقايا القتال ظلّت أسئلة بدون إجابات، وبحوثاً ومشاهدات وتسجيلات غير منتهية إلى شرائط سينمائية تامّة أو غيرها من وسائط فنيّة. أعماله مشاريع لا تخلو من تنظير، ومن أفكار خارجة عن الاتجاه السائد زمن الحرب الأهليّة (وحتّى راهناً)، وبعضها يتصف بالغرائبيّة، كما ذلك الذي تحقّق بالتعاون مع مصمّم ملابس طلب إليه كساريان، بالاشتراك مع صديقه الفيلسوف، في مشروع مشترك متعدّد الوسائط، رسم ملابس كل المقاتلين الذين جالوا في الجغرافيا المحلية أو استقروا فيها، في تاريخ لبنان الحديث.
الغرائبية سمة غالبة أيضاً على شخصيّة المخرج النزق الذي اختار طوعاً الانسحاب من شللية الوسط السينمائي اللبناني، على أعتاب بدء تصوير فيلمه الأول قبيل الحرب، ففتح في مقابلة مع مجلة «الشبكة» عن فيلمه، النار على كل زملائه اللبنانيين، وسخر من نتاجهم السينمائي، ومن «صورتهم»، ولم يوفّر صديقه سمير خوري.
يختلط الواقع بالمتخيّل في فصول حكاية كيفورك كساريان


المقابلة، وبعدها الحرب التي عطّلت تصوير فيلمه الأول، ثمّ اختفاؤه الطوعي واحتراق منزله ومتعلقاته وتفحّم قطته سماهر، لتتحوّل غرف في فنادق الحمرا إلى أماكن مبيت له، وبيروت الحرب الأهليّة إلى مختبر لمشاريعه، فسفره (غير المؤكد) إلى فرنسا... شذرات من حياة مخرج ينقلها راوٍ داخلي يتتبع أرشيف كساريان، ورسائله إلى أصدقائه، ودفاتر ملاحظاته، وصولاً إلى اختفائه بعد وصوله باريس، مع تعليلات عن الاختفاء تبقى مفتوحةً.
هل كساريان مخرج متخيّل، بحقّ؟ هل هو شخص أم رمز إلى مجموعة من الشخصيات أجهضت الحرب (والسلم المفترض) مشاريعها الفنيّة، كفادي أبو خليل (شاعر ومسرحي لبناني) الذي يرد اسمه في السطر ما قبل الأخير من الرواية، معلناً لصديقه في رسالة عن مشروع جديد سيوقّعه بهذا الاسم (بعدما فشلت الشرطة الفرنسية في العثور على كساريان)، بحسب تخيّل الراوي؟
يختلط الواقع بالمتخيّل في فصول حكاية كيفورك كساريان أو «حكاية الرجل الذي سكن ظلّه» كما يرد في عنوان فرعي أول الرواية القصيرة (98 صفحة مرقّمة) والمكتوبة بأسلوب سلس، ووفق تسلسل زمني يبدأ في عام 1975 وينتهي عام 1995، تاريخ اختفاء كساريان، نقطة الذروة، ولو أن السرد يحيل أكثر إلى قصّة صحافية لا تخلو من تشويق، تسحب القارئ إلى عالم كساريان، وتكثر من تحليلات هذا القارئ وتوقفاته خلال القراءة. تؤكد القصة المؤكد عن بلد مسخ متغيّر الأطوار، مسترجعة الحرب التي سرعان ما طويت صفحاتها بـ «كرنفال» إعادة الإعمار. وسواء تعلّق الأمر بحرب ضروس أبطالُها أهلُ البلد الواحد المتنابذون، بالاستعانة بجيوش نظامية وغير نظامية، أو بـ«كرنفال» إعادة الإعمار، لا حقائق خالصة فيها. تثير القصة أيضاً حالة المثقفين الحقيقيين الذين ارتضوا الهامش حياةً، بدون أن يتخلوا عن دورهم في السؤال والبحث، وإلى مشاريع بقيت حبيسة الأدراج، وحياة ثقافية تدفع إلى العتمة من يخرج عن السائد فيها، ويقول آراءه النقدية بدون مواربة، أو حتّى من يكون طليعيّاً. لكن لا مناص من الملاحظة، بعد الفراغ من القراءة، أن السرد متقشّف، يقول الكثير في رؤوس أقلام، بدون التوسّع في زمن الخراب المتتابعة أحداثه. إشارة هنا إلى أن عرضاً مسرحيّاً متعدّد الوسائط (تمثيل وأداء وتصميم صوتي وفيديو) ومعرضاً فنياً، من كتابة فادي توفيق وإخراج هاشم عدنان، يحمل عنوان الرواية نفسه أقيما في بيروت عام 2018.