«يقول لي الثلج في أول العام: قف وابتدئ، ها أنا الآن صفحتك الخالية. أيحسبُ أني نسيت نصيحته الغالية؟ وهو يأتي بها بين عام وآخَر، أمّا أنا فأطبّقها كل يوم... أبادر نحو المساء كأني نسيت الصباح، أبادر نحو الصباح كأني نسيت المساء، وأبقى هناك مبتدئاً، بين هذا وذاك، أحاول في كل يوم صناعة معجزة للبياض، أحاول في كل يوم، ولست لأنتظر الثلج». الشعر عند جودت فخر الدين (١٩٥٣) ضوء، سلام، كشفٌ وهَجر. إنه عملية كفيلة بأخذ العالم من الصباح إلى المساء وبالعكس: هو تمرينِ روحي، وطريقة لتحرير داخلي أشبه بـ«المعجزة البيضاء». يكشف الشعر العالم ويغطّيه كما الثلج في القصيدة التي نستلّها من «لم تدعني السماء وشأني» الصادرة عن «العائدون للنشر» التي أطلقت مبادرة «مختارات العائدون الإبداعية العربية». يعرّفها مديرها الشاعر عمر شبانة كمشروع «يجمع نخبة من الكتّاب المبدعين، الشعراء والقصّاصين، من عدد من الأقطار العربية، بل من كلّ قطر عربي، ومن دون تمييز على صعيد جنسية المبدع وبلده. هو مشروع يسعى إلى جمع ما أمكن من مختارات تحاول تلخيص تجربة كلّ من هؤلاء الكتّاب الذين يقع عليهم اختيار الدار».

عشرون قصيدة تخترق النتاج الشعري لفخر الدين، من «أوهام ريفية» (١٩٨٠) حتى «حديقة الستين» (٢٠١٦)، وبينهما مختارات من «للرؤية وقت» (١٩٨٥)، و«قصائد خائفة» (١٩٩٠) و«منارة للغريق» (١٩٩٦)، و«سماوات» (٢٠٠٢)، و«ليس بعد» (٢٠٠٦) و«فصول من سيرتي مع الغيم» (٢٠١١) على مساحة ٢٣٠ صفحة تقريباً تكشف الحساسية الشعرية العالية وأهم الملامح الحميمة والحزينة في آن، لقصيدة تحمل السماء والبلاد وحزن الريف في عين الشاعر الذي يعاند الحياة كطفل جسور. يرغب في كلّ شيء، ولكنه زاهد في كل شيء أيضاً. في الصفحات الأولى، نُبصر الحساسية الريفية الملتصقة بالفصول الجنوبية التي تلقي الشاعر في ثنائية الرحيل- الالتصاق بالأرض الأم، حيث الإيقاع التفعيلي يواكب هذه الثنائية: «كان بيني وبين الفصول اتّفاق: كأن نتشابهَ: حيث التعاقبُ، حيث التحولُ، حيث ارتداد الصدى. ثم إن الفصول تولّت، فأقعيت في وحشتي، هادئاً كانتظارٍ ظليل. أراقب في البعد أفقاً يميل. وأذكرُ : كان السواد بعينيّ يغشى التخومَ، ويغشى النجومَ ويمحو القرى». الحيرة ذاتها ولعبة الاحتجاب والكشف في القصيدة الأخيرة، مطارداً طير الشعر وغزالة المعنى في خراب البلاد وأطلال الديار: «من أين تأتيني طيور الشعرِ؟ من أيّ الأقاصي؟ ربما كانت بوارحَ، لا يهمُّ، فلا يجيء الشعر إلّا بالسوانحِ، كلّ طير من طيور الشعر يأتي سانحاً، لا بارحاً، ويطير مشتملاً جهات الأرضِ، مشتملاً رياح الأرضِ، مشتملاً فضاءً تستحيل الأرض فيه قشةً. ماذا أقول إذاً لأطلال نسمّيها بلاداً؟ كيف أبكيها؟ أأبكيها وما زالت طيور الشعر تأتيني؟ وكيف إذا استجارت بي جراحات الصدى وغزالة المعنى؟». كما نشهد في المختارات ترحال الشاعر في مدن وبلدان عديدة زارها، مثل اليمن الذي يطارد فيه الشاعر حزنه مع أمطار الجبال العالية: «كأني قد أتيت إلى هنا في غفلة من الزمنِِ. فوجدت أيامي، تقطّرَ ذوبها، في أدمعِ اليمنِ»، مروراً بأمستردام حيث «ضوء الشوارعِ والشجر المتكاثفُ والطير في جوّه المتلبّدِ، والنهرُ خيطُ البحيرات، والزرقة المدلهمة عند الغروبِ، ولكن لعلّي هنالك أنكر ليل الدروبِ، وأنكر وجه المياهِ، وأدعو النجوم لتومض كالشك في خطوتي»... وليس انتهاءً بالقصائد الأميركية حيث يغدو الحزن أكثر وداعةً وإلفة: «يقول لي الثلج: لا لون غيري، وما أنا لونٌ، وفي ألقي كل لونٍ... يقول لي الثلج أيضاً: سريرتك اليوم مثلي، يخالطها الهمّ من كل لونٍ، فإذ هي بيضاء بيضاء».
تأتي هذه المختارات تكريماً للشاعر القادم إلى الشعر من الفيزياء، والأستاذ حالياً في الجامعة الأميركية في بيروت وسابقاً في الجامعة اللبنانية وجامعة «بلومنغتن» في ولاية إنديانا الأميركية التي درّس فيها كأستاذ زائر عامي ٢٠٠٨-٢٠٠٩، والذي تُرجمت له مجموعتان هما «منارة للغريق» (٢٠١٧) و«السماء التي أنكرتني» (٢٠١٩) إلى الإنكليزية. لا يغيب الجنوب اللبناني عن المختارات التي تذكرنا ببدايات فخر الدين الذي شكّل مع مجموعة من الشعراء أمثال محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع ومحمد العبد الله وحسن العبد الله والياس لحود وعصام العبدالله وغيرهم مِن مَن سمّي بشعراء الجنوب، وبخاصة في مجموعة «للرؤية وقت»، المجموعة الأشبه بمانيفستو الحزن والرفض للأرض العاملية الغارقة في دمها والمتروكة للغزاة والحرائق، تخترع وصفة الحرية المضادة «كأثواب الأساطير»: «نعودُ إلى القصيدة نفسها، (كُتبت بنا)، ونخطّها يوماً فيوماً في الجنوبِ، نخطّها ولهاً على الطرقاتِ، أشرعةً كأثواب الأساطيرِ، انفجارات ترى حرقاً على الأرض القتيلِ، تحيلُها برداً على المدن الصغيرة والقرى. كُتبت بنا، ونخطها ولهاً على الطرقاتِ، نطلقها ملائكة تحارب في هواء جاحدٍ. يأتي الجنوب كما أتى من قبل، جندياً وحيداً، حربه الحرب الوحيدة».
النفَس الجنوبي ومكابدة الأرض المطلة على الجليل كما تتجسد في أشعار فخر الدين تتفق مع رؤية «العائدون للنشر» في مشروعها الآخر المتمثل في «نشر كل ما له علاقة بالتاريخ الفلسطيني، القديم والحديث»، ومناهضة الرواية الصهيونية لهذا التاريخ. «بدمِ القصيدة نفسها» وبساعدين كغلالة الشمس الحبيسة، كسحابة الشغف المرير كما يقول فخر الدين، يخرج فدائيون نحو الأرض السليبة «مثل توهج الزمن الأخير... بدمٍ يجدد كل حين دربَه».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا