إثر نشر قصة «الخوف» عام 1965، تعاملَ نجيب محفوظ معها بمبدأ «التقية»، إذ حرص على تبديد أيّ تفسير مباشر لها بشأن تغوّل الضبّاط بعد «ثورتهم» في مصر، وشدَّد على أنّها إعادة كتابة لسيرة ضابط قديم أيام زمن الفتوّات. وبعد انتهاء حُكم جمال عبد الناصر، استعادت القصة تفسيرها المباشر بتصريح محفوظ نفسه، حيث شدَّد هذه المرة على أنّ مهمة الفن لا تقتصر على «القضايا الكبرى» بل يمكن له أن يكون وسيلة لغاية، بحيث تكون القصة ردّ فعل مباشراً على الأحداث حتّى لو فقدت القصة تأثيرها بانتهاء الأحداث. غير أنّ قصة «الخوف» صالحة لعصر ناصر ولغيره من العصور. ستبقى للقصة إسقاطاتها المتلائمة مع كلّ سياق لأنّها أكبر من محض وسيلة، بل هي غاية في ذاتها. تمرّدت القصة حتّى على كاتبها لتؤكّد ميزان د. هـ. لورنس الذي لا يخيب: «ثق بالحكاية لا بالفنّان».مع اندلاع الانتفاضات العربيّة، استُعيدَ الجدال الأزليّ: هل الفن وسيلة أم غاية؟ هل هو وثيقة أم عمل جماليّ؟ هل الأفضل الكتابة المباشرة أم إرجاء الكتابة إلى حين انتهاء الحدث بغية فهمه أكثر؟ وكان هذا السّجال على أشدّه لدى الكتّاب السوريّين الذين انقسموا حيال هذه الأسئلة، وفضّل الغالب الأعم منهم الكتابة المباشرة لأسباب كثيرة تبدأ بالتوثيق ولا تنتهي بالكتابة وفق أجندات المترجمين الأجانب والتمويلات الأوروبيّة. ولكنّ النتائج كانت مخيّبة، إذ لم تقدّم جديداً للقارئ الذي بقي على تفضيله وعلى إدمانه للوسائط المباشرة من تلفزيونات وفيديوهات ومقالات، بحيث بات يمكن لهم ببساطة تصنيف أيّ رواية جديدة بوصفها «رواية أخرى عن الأحداث» من دون فوارق تُذكَر بينها. الفارق الذي تقدّمه رواية المغيرة الهويدي «قماش أسود» (منشورات «تكوين») هي أنّها لا تندرج بدقّة تحت أيٍّ من التّصنيفَيْن الكبيرين: انتهى الحدث المباشر الذي تؤرّخ له الرواية مع التّلاشي الموقّت لتنظيم داعش وسيطرته على مدينة الرقّة؛ ولكنّها – في الوقت ذاته – توثّق أحداثاً لم تنتهِ بعد، حين انتقلت السُّلطة من يد «داعش» إلى يد «قسد». ولذا كان لا بدّ من تعامل ذكيّ مع هذا الحبل الرفيع الذي يفصل التّصنيفين. لا بدّ من رواية تحتفظ بجوهرها الفنيّ، وتقدّم قراءة موازية للأحداث في آن. وهذا ما نجح الهويدي فيه بدرجة معقولة.


انطلق الهويدي بذكاء من زاوية مهملة في الحروب: حضور المرأة. تقوم الرواية على بطلاتها النساء، فيما كان الرجال محض كومبارس صامت معظم الأحيان، بل إنّ دورهم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنساء اللواتي يحرّكن أحداث الرواية في اتّجاه مناقض للأحداث الخارجيّة التي بدأها الرجال، وواصلوا إشعالها، مع فارق أنّ إنهاءها ليس في أيديهم، ولا حتّى في أيدي النّساء. الجميع بيادق في رقعة الشطرنج هذه التي تنتظر الأحجار القويّة وحركاتها الأسرع وسُلطتها الأشدّ. تتعاظم أهميّة ذكاء التقاط الزاوية حين يقدّم الهويدي جغرافيا مجهولة للقارئ السوري والعربي على السواء: مدينة الرقة التي ربّما لم تكن لتظهر على سطح الأحداث لو لم تقع في قبضة «داعش». مدينة منسيّة في شرقٍ منسيّ بقي إلى اليوم بيئة مجهولة في الرواية السوريّة التي تفضّل المدن الكبرى مسارح لأحداثها شبه المتطابقة. كان الهويدي قد بدأ لملمة تفاصيل هذا المكان، وصونه من النسيان، في قصائده، وواصلَ لملمته الجميلة في «قماش أسود» التي كانت تسعى إلى رسم تفاصيل المكان جنباً إلى جنب مع تفاصيل ناسه أو نسائه، أو ربما رسم تفاصيل العلاقة الجدليّة التي تربط الناس بالمكان، سواء كانوا أبناء «أصليّين» لهذا المكان أو ضيوفاً عابرين، شاءت الأحداث ترسيخهم أكثر في هذا المكان الذي سيكون مثواهم الأخير على الأغلب. كانت «قماش أسود» ستمثّل رواية سوريّة فارقة لو التفت الهويدي بدرجة أكبر إلى المكان بطبيعته وأشجاره وسمائه وطقسه المتقلّب الذي لا يفهمه إلّا أبناء ذلك الشرق السوريّ، ولو تجرأ أكثر في تقديم اللهجات المحكيّة بدلاً من الفصحى التي احتلّت فضاء الرواية وطبعته بطابع رتيب في معظم الحوارات. ما أنقذَ الرواية من الإخفاق كانت لغة الهويدي السرديّة المتقنة، وحساسيّته الرهيفة في رسم شخصيّاته النسائيّة، آسيا والحاجة زهرة على الأخص، لا البطلة نسرين. ولكنّ تلك الحساسيّة كانت خارجيّة، بمعنى تأرجح الشخصيّات بين أن تكون سيّدة نفسها وبين أن تكون شخصيّات مرتبطة بالكاتب. تبلغ الشخصيّات أبهى درجاتها حين تتملّص من الكاتب، على الأخص الحاجة زهرة التي بدا أنّها تمرّدت على دورها الثانويّ الأصليّ، بحيث بات طيفها مخيّماً على الثلث الأخير (الأجمل) في الرواية حتّى عند غيابها عن الحدث. وكأنّ المكان الذي هَرِمَ وتقلَّبَ بين أيدي الطغاة الرجال الشبّان تجسّدَ في الحاجة زهرة بهدوئها وصرامتها وحنانها وسطوتها في آن.
مدينة الرقة ربّما لم تكن لتظهر على سطح الأحداث لو لم تقع في قبضة «داعش»


تصل الرواية إلى ذروة جمالها في المشاهد التي ترسم اندلاع العاصفة الرعديّة المتّحدة مع اندلاع اشتباكات عنيفة تُطوِّق المخيّم. كانت الشخصيّات كلّها حائرةً خائفةً قلقةً منكسرةً باستثناء الحاجة زهرة التي بدت مثل آخر عمودٍ راسخ في المكان الذي استحال أطلالاً من الخيم المهدّمة؛ بدت الحاجة زهرة كأنّها تضبط إيقاع الرواية بطقطقات مسبحتها بعدما انزلق الكاتب على نحو غير مباشر إلى التوثيق. امتدّ هذا التهدّم حتّى إلى فضاء الرواية المكانيّ الذي بدا مشظّى في تفاصيل متناثرة، جميلة ولكن مبعثرة، كان يمكن لها أن تتألّق أكثر لو وثق الهويدي بنفسه وبأدواته أكثر، ولو توسّع في روايته التي كانت تحتمل عدد صفحات يقرب من عدد صفحاتها الحاليّ، كي يقدّم لنا ملحمةً – ولو مصغّرة – عن مكان منسيّ، وأناس منسيّين، وتاريخ منسيّ. «قماش أسود» رواية أولى، ولذا ينبغي لنا ربما قراءتها بصرامةٍ أقل، إذ هي رواية مبشّرة بقوّة بقدوم روائيّ متمكّن بدرجة جيدة من أدواته التي سيبرع بها أكثر في الروايات القادمة التي سنترقّبها بشغف. الأهم أنّها رواية جميلة، بالرغم من تأرجحها، إذ هي رواية بِكْر بكل معنى الكلمة، في تردّدها وقلقها وبراءتها وتلعثمها، وهي حتماً ليست «مجرد رواية سوريّة أخرى».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا