يفترق عماد الورداني في كتابه «تمثيل الجسد في الرواية العربية» (فاصلة) عن الدراسات المماثلة الأخرى في هذا السياق، إذ لطالما اعتنى النقد بقراءة الجسد سردياً بوصفه موضوعاً خارجياً قابلاً للتحديد عبر ربطه بالدلالة التي تُحيل إليه أو التقنيات السردية التي يتحقّق بها، فيما تلتفت هذه القراءة إلى «ربط الجسد بما هو موضوع خارجي بالوعي المجسَّد»، معتبراً أن الجسد بنية رمزية مركّبة تتمثل بما هي صيرورة مشروطة بتعيينات تنهض على «الطارئ والمآل»، وعلى «الصلابة والاندثار». وتكتمل هذه التعيينات عبر وسائط جسدية تتمثّل في «اللغة، والذاكرة، والحواس» بالارتحال من بعده الوصفي التأثيثي إلى البعد المعرفي الوظيفي. ويشير الباحث المغربي إلى أن مرجعيات الجسد في الرواية هي سياسية وتاريخية وثقافية. هكذا يضيء أشكالاً من عذابات الجسد تاريخياً، سواءً كان فردياً أو جمعياً. في قراءة الجسد السياسي، يحيل إلى ثنائية الاعتقال والحرية، وتالياً الاختطاف والانعتاق، ثم الاغتصاب، والتمرّد، منوّهاً إلى «جسد معلن يواجه جسداً سريّاً»، وصولاً إلى طمسه وتغييبه، فيما يتمثّل الجسد الثقافي بنظرة الجسد الأنثوي إلى جسديته، ونظرة الجسد الذكوري إلى جسديته، ثم التقابل بينهما «الدونية/ والخصاء الرمزي» كمحصلة للفشل في إحداث المطابقة بين الجسد الذكوري والعالم. وهو ما جعله ينتقل من «الصلابة إلى التلاشي»، ويتمثّل الجسد التاريخي بثلاثية «الهيمنة والمقاومة والتلاشي». مروحة واسعة من النصوص تمتد من إبراهيم المازني (إبراهيم الكاتب)، مروراً بنجيب محفوظ (بداية ونهاية)، ومحمد برادة (حيوات متجاورة)، والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وعلوية صبح (دنيا)، وزهور كرام (جسد ومدينة)، وعفاف البطاينة (خارج الجسد)، بالإضافة إلى نصوص أخرى تغلق الدائرة على تنويعات الجسد تخييلياً.


يحضر الجسد السياسي المعذّب أولاً، والمتمرّد ثانياً، بكامل طبقاته، في روايتَي «معذبتي» لبنسالم حميش، و«الطلياني» لشكري المبخوت. في الرواية الثانية خصوصاً، سنقع على مرادفات متعدّدة للعنف مثل الاغتصاب والألم واللذّة تبعاً للمواقف التي تواجهها شخصيات الرواية: «يتحقّق تمرد الجسد الذكوري عبر النقص والبحث عن الاكتمال، وتحويل فائض اللذة إلى فائض الشقاء»، فيما يتمرّد الجسد الأنثوي بإعلان القطيعة مع التفكير الذكوري الذي سعى إلى فرض وصايته عليه. ويشير صاحب «احتراق جسدين» إلى أن الرواية الواقعية تكاد تخلو من حدّة الانفعالات والعواطف، بالانفتاح على الخارج بإشكالاته وتحوّلاته، وهو ما جعل الجسد يتمثّل بوصفه جزءاً من وضعية اجتماعية ونفسية، بينما انتقلت الرواية الجديدة من «حجب الجسد إلى الكشف عنه في كليته»، والانتقال به من «الانفعال إلى الإدراك». في رواية «دنيا» لعلوية صبح، ينهض السرد على تشغيل الذاكرة وإخضاع الإدراك الحسّي للخبرة الجسدية، واستنفار الحواس، قبل أن تتحوّل البهجة والطمأنينة إلى حالة عجز وضعف، واللذّة إلى مرارة، والحنان إلى عنف، بتفكيك التطابق بين الجسد الأنثوي والجسد الذكوري منتهياً إلى «تحطيم المجال المشترك». من موقعٍ آخر، تأتي رواية «جسد ومدينة» لزهور كرام كنموذج للاختلال بعد التطابق مع العالم، فتنتهي معظم شخصيات الرواية إلى أجساد محطّمة وخاسرة ومندحرة بسبب التشويش الخارجي عليها. في قراءة الوسيط اللغوي كرافعة لحضور الجسد، نتعرّف إلى جسدٍ شهواني، وآخر سلطوي، تبعاً لمسار اللغة التعيينية أو الاحتمالية القائمة على جسدية التقابل من جهة، وجسدية التردّد من جهةٍ ثانية. أما تمثيل الجسد باستثمار الذاكرة، فنجده في رواية «حيوات متجاورة» لمحمد برادة، إذ يشرّح أحوال الجسد الشهواني من اللذّة إلى الألم، باستثمار طرائق مختلفة تستدعي الاسترجاع والوعي القصدي والتركيب الأيقوني (من الصور إلى اللغة)، وصولاً إلى تمثيل الجسد السلطوي في النظام والعبث. وبخصوص الجسد الثقافي، تنطوي النظرة الذاتية إليه من فقدان الحرية في المقام الأول، وإذا بالجسد الأنثوي الموصوف بـ «الفتنة واللذة والرغبة»، يُحاصر بالأعراف التي جعلت منه عورة ينبغي إخفاؤها باللباس وحجبه عن الأنظار. نتتبع سرديات عفاف البطاينة في «خارج الجسد» كنموذج لحركة الجسد بين الفضاء المفتوح والفضاء المغلق. حرية الحركة والركض وضبط حركة الجسد وتكبيله إلى حدود شلله، وصولاً إلى السكون والصمت. وما أن يتمرّد على هذه الإكراهات المتوارثة، سوف يتعرّض للعقاب الذكوري في ثنائية المقاومة والعقاب. ويتحقق الوعي الذكوري لجسديته في علاقته بالجسدية الأنثوية عبر منظورات «الفحولة، والإخصاء، والتوازن».
يحضر الجسد السياسي المعذّب أولاً، والمتمرّد ثانياً

وفي بابٍ آخر، يسعى الباحث إلى رصد التمثيل التاريخي للجسد في صيغته الفردية والجمعية بضبط تردّدات هذه الثنائية. هنا يميط اللثام عن شخصية غريتورد بيل في رواية «خاتون بغداد» لشاكر نوري، كصورة فردية لحضور الجسد الخاص في تحولاته من القوة إلى التلاشي: «إن تقهقر الجسد واندثار التماسك الداخلي، وفقدان السلطة، وغياب سند عاطفي، كلها محاور تعاضدت في ما بينها لتعيد تشكيل جسدية مس بيل عبر نقلها من وضع الصلابة إلى وضع الاندثار» يقول. وسوف تهيمن النظرة الاستشراقية على الجسد الجمعي من منظور متعالٍ حيال الآخر بوصفه جسداً متخلّفاً بالمقارنة مع الجسد الاستعماري، وفقاً لقراءة إدوارد سعيد للاستشراق، وهذا ما اشتغل عليه ناصر عراق في روايته «الأزبكية» برصد حملة بونابرت على مصر، واتكاء قائد الحملة على المدوّنة الاستشراقية في فهم طبيعة المجتمع المصري، وفرض هويته التنويرية بإرغام الجسد الجمعي على تبنّي أفكاره، والخضوع والانصياع لقرارات المؤسسة الاستعمارية، لكن هذا التبخيس للجسد الجمعي المصري انتهى إلى صراع بين طهارة الأول، ودنس الثاني، وصولاً إلى مقاومته.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا