لا أنسى اليوم الذي قرَّر فيه والدي بيع المنزل الذي ولدتُ وكبرتُ فيه.هل كان الثمن يستحقّ أن يتخلّى عن المكان الذي تزوره روح والدتي يوميّاً، وأحتفظ وأخي الوحيد بذكريات في كل شبر منه؟
كان يقضي أحد عشر شهراً في الكويت ليعود في إجازة سنوية مدَّتها شهر واحد، فلا يكاد يعرف عن حياتنا – بحلوها ومرّها – شيئاً. لا تكفيه اتصالات هاتفيَّة متباعدة كي يدرك ما يمكن أن تعايشه أمّ مع طفليها في بيروت الغربيَّة إبَّان حرب التحرير، خصوصاً إن كانت مقيمة في بناية عبدو في الباشورة، على مسافة أمتار من أحد مقرَّات واحدٍ من الطرفَين المتحاربَين.
رجوتُه أن يعدل عن قراره دون جدوى. لم تنفع توسّلاتي ولا دموعي الحارَّة التي استمرَّت أيَّاماً وليالي في ثنيِه عنه. شعرت أنَّ روحي كادت تفارق جسدي حزناً وكمداً ولم يتأثَّر أبي.
الحقيقة أنَّه كان مضطراً، وأنَّ السبب لم يكن ماديّاً البتة. فقد ماتت والدتي في خريف عام 1993 وفي قلبها حسرة وعتب كبير عليهما، هو ويُمنى، جارتها وصديقتها الأقرب التي سرقت قلب زوجها، وكان آخر ما طلبته من أبي أن لا يتزوج من يُمنى بعد وفاتها، قالت له وهي في حالة بين الضحك والبكاء إنَّها ستقوم من قبرها لتقتلهما لو فعل! ولم يكن أمامه لتحقيق رغبتها سوى الفرار إلى مسكن آخر خارج هذه المنطقة وغير بعيد في الوقت ذاته عن مدرستنا، وعن مكان عمله الجديد الذي ساعده صديقٌ له في الحصول عليه بعد عودته من الكويت وقد انتقلت إليها لعنة الموت والدمار.
قبل عيد ميلادي الثاني عشر بيوم واحد ماتت أمّي بعدما فشلت في مواجهة المرض الذي يخشى الناس ذكر اسمه. كنتُ وحدي معها في غرفتها في لحظاتها الأخيرة، وكان رأسها يرتاح على يدي. خرجتُ إلى أبي وعمَّتي في غرفة الجلوس لأخبرهما بالأمر وقد منعتني الصدمة من البكاء، سمعتُ عمَّتي بعد أيام تطلب منه أن يعرضني على طبيب نفسي لعله يساعدني في محو المشهد الأليم من ذاكرتي ويجنّبني آثاره السيئة، فلم يكترث. حذَّرَته من كوابيس ستلاحقني إن لم يفعل، فأخبرها أنَّه ينوي الانتقال قريباً إلى منزل آخر، وأنَّ هذا سيكون كافياً.
بيتنا الجديد في «ميناء الحصن» كان أجمل وأكثر اتّساعاً. كانت لكلّ منا غرفة خاصَّة به مع شرفة صغيرة وحمّام مستقل، ولكن كلّ هذا لم يعنِ لي شيئاً. كنتُ أريدُ والدتي القابعة في الطبقة الثامنة من بناية عبدو، أريدُ شعرةً واحدة من شعراتِها الكستنائيَّة التي كنتُ – بعد رحيلها - أجدها يوميّاً في كلّ زاوية من زوايا البيت الذي أكون قد شطفتُ أرضه بالأمس فلم أُبقِ أثراً لذرّة من الغبار عليها!
بعد خروجي من شقة الباشورة لم أعد إليها أبداً، ولكنني لم أتوقَّف عن زيارتها في الأحلام. لم تكن أحلاماً، بل حلم واحد يتكرَّر كلَّ مرَّة مع تعديلات طفيفة. كنتُ أدخل إلى الحي من مدخله الوحيد الذي لم يتغيَّر أبداً. محلات الخضار والبقالة على حالها. أصل إلى البناية فأطلب المصعد إلى الطابق الثامن لعلّي ألمح طيف والدتي في نظرة مسترقة من ثقب الباب. لكن المصعد لم يصل بي إلى الطابق الثامن مرة واحدة. كان في كلّ مرَّة يهتزّ بشدّة ثمّ يتوقف مرَّة في الطابق العاشر وأخرى في السادس، فأضطرّ إلى استخدام الدرج لأصعد طابقين، أو لأهبط طابقين، وقلبي يصعد ويهبط جزعاً من أثر ارتجاجات المصعد العتيق.
أصل إلى الثامن وخوفي لا يفارقني. أدقّ الباب فلا يفتحه أحد. أسترق نظرات من ثقبه، فألمح والدتي مع طفلين غريبَين لا أعرفهما، أعاود الطرق بلا نتيجة. أعود أدراجي خائبة وفي جعبتي حلمٌ لن يتحقق. حلم احتضان والدتي لمرَّة واحدة وتنشّق الرائحة المميزة لرقبتها والغرق في أنفاسها الدافئة.
ظلَّ الحلم يتكرَّر حتى حفظته، فصرت أتنبّأ بما سيتخلله من مفاجآت، وأواجهها بشجاعة أكبر، فلم أقرّر استخدام الدرج مثلاً رغم معرفتي المسبقة بما سيواجهني داخل المصعد.
وفجأةً، توقَّف الحلم عن زيارتي، فاحترتُ في حقيقة مشاعري حيال ذلك، ولم أستطِع التأكّد إن كنت سعيدةً للتخلص من الأسى الذي يثيره في نفسي، أم مفتقدةً لتلك المرأة في الطابق الثامن وإن كانت لا تسمح لي بأن أراها سوى من ثقب الباب.
وبعد سنة ونصف، عاد الحلم مجدَّداً، ولكن تغيّرات كثيرة طرأت على تفاصيله. اختفت محلات الخضار والبقالة التي كانت تطالعني عند مدخل الحيّ. مطعم أبو عبد الله اختفى بدوره مع «الشوّاية» الكهربائيَّة الكبيرة التي كانت الرائحة الزكية المنبعثة منها تصل إلى الشوارع المجاورة. صالون الحلاقة والطبّ العربي ما زال موجوداً ولكن من يقف بداخله شخص آخر غير العمّ أبي عدنان. أصل إلى بناية عبدو فأجد جدرانها الخارجية مطليَّة بالأزرق السَّماوي، ودكان أبي رواد في طبقتها السفليَّة انتقلت ملكيَّته وإدارته إلى الابن الذي ورث أباه. كبُر رواد وصار شابّاً بوسعه أن يتّخذ قراراً بحجم نقل براد «كوكاكولا» إلى الزاوية المقابلة لمكانه السابق! محل الشوكولا الذي كان صاحبه يلاعبني طفلة انتقل من يسار الشارع إلى يمينه. الكل يغادر اليسار في زمن الإنماء والإعمار: المثقّفون كما محلات الشوكولا! أنظر إلى هذه التباينات باندهاش بالغ ولا أفرح باكتشافِها وَعدِّها كما في لعبة الفوارق الخمسة.
وصلتُ إلى مدخل البناية فوجدتُ الأرضيَّة والجدران مختلفة وقد تمَّ تلبيسها ببورسلان بنيّ اللون، المصعد أيضاً استُبدِل بآخر حديث. فرحتُ باستبدال المصعد المتهالك وقلتُ إنَّني سأصعد بلا خوف هذه المرَّة. كان الخوف قد قلَّ كثيراً بفعل تكرار الحلم ولكنَّه هذه المرَّة تبدَّد وتلاشى تماماً. أوصلني المصعد الجديد بلا ارتجاجات، واستغربتُ أن يكون باب شقتنا في الطابق الثامن مفتوحاً. دخلتُ بلا استئذان، فلم أجد أحداً رغم بحثي في الغرف كلها. جلستُ على عتبة الشقة حتى الصباح أنتظر أمّي لعلها تأتي فأكحّل عيني برؤيتها وأسلم عليها وأحتضنها كما حلمتُ دوماً، ولكن الصباح طلع ولم تأتِ، فبكيتُ كثيراً، وحين استيقظتُ كانت دموعي لا تزال تبلل خدّي.
بعد الحلم الأخير قرَّرتُ مواجهة الأمر بشجاعة وزيارة شقة الباشورة، لأعرف إن كان ما في أحلامي السابقة أو في الحلم الأخير حقيقيّاً. طلبتُ من زوجي أن يصحبني إلى هناك زاعمةً أنني أرغب باستعادة ذكريات طفولتي وزيارة مدرستي الأولى، فلم يمانع. وحين وصلنا كانت المفاجأة أنَّ التغييرات التي شاهدتُها في الحلم الأخير كانت مطابقة للواقع!
طلبتُ من زوجي وابنتي البقاء في السيارة ووعدتُهما ألّا أتأخر. عرضا عليّ مرافقتي ولكنَّني أبَيْتُ متعلّلة بأنني سأستمتعُ بالتجربة أكثر إذا كنت وحدي، عبرتُ الشارع على قدمَيّ فوجدتُ البناية منتصبة أمامي بلونها الأزرق السَّماوي، وهالني أن يكون رواد قد تسلّم إدارة دكان والده بالفعل، وأن يكون شكله كما رأيتُه في المنام بالضبط، وأن يكون موضع برّاد الكوكاكولا بدوره قد تغيَّر! دخلتُ إلى البناية فطالعني البورسلان البني والمصعد الحديث. ولجتُ المصعد، فعاينتُ ارتباكي عن قرب في مرآته العريضة الصقيلة. أخذتُ لنفسي صورة سيلفي في محاولة لإضفاء جو من المرح على مهمتي الغريبة ولأتجاوز توتري، ذكَّرتُ نفسي بأنَّ المصعد الحديث لم يخذلني في المنام وأوصلني إلى بيت أمي بهدوء. لم يبقَ إلّا أن أجد أمّي في المنزل، وأن يكون كلّ ما مررتُ به منذ وفاتها المزعومة كذبةً كبرى.
وما إن ضغطت على الرقم 8 حتى ارتفع المصعد بسلاسة، ولكنَّه، وبوصوله إلى الطابق السَّادس، لم يتوقَّف بل اهتزَّ بشدَّة، وبدا أنَّها ليست كاهتزازات المصعد القديم في المنامات السابقة، بل كان من الواضح أنَّه في طريقه إلى السقوط هذه المرَّة، فَرَكْتُ عينيَّ لأتأكَّد إن كان حلماً آخر فتيقَّنتُ أنَّني في قلب الواقع هذه المرة. وكان آخر ما تذكَّرته قبل السقوط كلمات سلوى!
كنت قد قصصتُ حلمي المتكرّر على سلوى، صديقتي الضليعة بتفسير الأحلام، فقالت بلهجة أرادتها كئيبة ورصينة: «المصعد الذي يقودك إلى شخص ميت ليس سوى الموت نفسه». ابتسمتُ وطالبتها ساخرةً أن توفّر رصانتها وكآبتها لمواقف أخرى، فأنا – لو حصل ذلك - سأكون سعيدةً برؤية أمي، ولكن المصعد يهتزّ فقط في المنام ولا يقع، فأين إشاراتُ الموت في ذلك؟ لم تجِب سلوى سوى بابتسامة غامضة.

* صور/لبنان

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا