بين مجموعة بورخيس الشعرية الأولى «حماس بوينوس آيريس»، الصادرة عام 1923، ومجموعته الشعرية الأخيرة «المتآمرون»، الصادرة عام 1985، مسارٌ شعريّ مُتشابكٌ مع مسار سرديّ. تشابكٌ تغذّى دوماً من روافدَ فكريّة كانت ساريةً في مُوجِّهات المساريْن اللذيْن ظلّت العلاقةُ بينهما مُنطويةً على أسئلتها، وإن غلّبتْ الدراساتُ المُنجَزة عن بورخيس الاهتمامَ بكتاباته النثريّة. فرغم نُدرة الدراسات التي أُنجزتْ عن مسار بورخيس الشعريّ، مُقارنةً بما كُتِب عن مساره النثريّ على نحو غلّبَ صورةَ بورخيس القاصّ، بقيَ وفاءُ بورخيس للشعر بيّناً من كونه ابتدأ شاعراً و«انتهى» شاعراً، لأنّ بورخيس لم ينفصل إطلاقاً عن كتابة الشعر حتى وإنْ تخلّلت هذه الكتابةَ فتراتٌ من الصّمت.
توليو بيريكولي ــ «بورخيس» (1987)

تبدّى ارتباط بورخيس المصيري بالشعر من وفائه لهذا الشكل الكتابي حتى اللحظات الأخيرة من حياته. فقد كتبَ مجموعته الشعريّة الأخيرة «المتآمرون» سنةً قبل وفاته، بما يكشفُ أنّ الشعر لم يكُن البتّة مجرّد لحظةٍ في مسار بورخيس هيّأتْهُ للانتقال إلى لحظة أخرى، ولم يكُن شكلاً كتابيّاً تمّ الانفصالُ عنه بالتحوُّل إلى شكل آخَر، بل كان الوفاءُ للشعر مُندرجاً لديه ضمن رُؤية عميقة عن الأدب بوَجه رئيس، وعن تعقّد علاقات الأشكال الكتابيّة، وعن الوحدة التي تحكمُ هذه الأشكال حتى وإن بدَتْ مُنفصلةً في المُمارَسة النصيّة. اِنفصالٌ حاجبٌ، على مستوى الظاهر وحسب، لِما يَحكمُ كتابةَ بورخيس من وشائجَ وصِلاتٍ لا تُرى، لأنّ بورخيس لم يُفرِّط في الخيوط الناسجة لهذه الوشائج والواصلة ضمنيّاً بين الحكي القصصيّ والشعر، بوصفهما الشكليْن اللذيْن مارسَ بورخيس، على امتداد حياته، الكتابةَ اعتماداً عليهما.
ظلّ الشعر، من داخل هذه الوشائج التي لا تُرى واستناداً إلى تصوّر بورخيس الذي عدّ الشعرَ أسّ الأدب، بانياً لمَسار هذا الأديب الكتابيّ حتى في السنوات التي شَهدَت صمتَه شعريّاً. إنّه الصمتُ الذي تبدّى، مثلاً، من الفاصل الزمنيّ بين مجموعته الشعريّة الثالثة «دفتر سان مارتن»، الصادرة عام 1929، ومجموعته الشعريّة الرابعة «الخالق»، الصادرة بَعد ذلك بثلاثة عقود، أي عام 1960. من قلب هذا الصمت الشعريِّ نفسه، انتظمَت علاقة بورخيس بالقول السامي وَفق دائرة كُبرى تحدَّدت انطلاقاً من العلاقة بين بداية الكتابة ونهايتها عنده، على نحو ما تكشّفَ من صلةِ مجموعته الشعريّة الأولى بمجموعته الأخيرة، كما انتظمَت وَفق دائرة أصغر احتكمَت إلى الصمت الذي جعلَ الشعرَ لا ينفكّ يعود من داخل هذا الصمت نفسه، باعتباره رافداً شعريّاً وحاجةً يتطلّبها الشعرُ ذاتُه. لقد وجّهَ هذا المسارُ الدائريّ علاقةَ بورخيس بالشعر، انطلاقاً من عودة الشعر الدائمة في كتابته. كما جعَلَ المسارُ هذه العلاقةَ ذاتَها تجليّاً من تجلّيات الدوائر التي كان بورخيس شغوفاً بأسرارها، وحوّلَ نمطَ الارتباط، في هذه العلاقة، إلى مَلمحٍ من ملامح الارتباطات المَصيريّة التي عاشَها وتأمَّلها في الآن ذاته، بصورة لم تكُفّ خُيوطُها، على امتداد مسار حياته، عن العودة والتجدّد.
إلى جانب هذا المسار المُنطوي على أسراره، كان بورخيس يَرى نفسَهُ شاعراً في الأصل، وهو ما عبّرَ عنه في تصريح صحافيّ أدلى به عام 1978، جاء فيه: «شخصيّاً أومنُ بأنّني شاعر. أحسُّ بأنّني قريبٌ جدّاً ممّا أكتبُهُ في علاقةٍ شِبه فوريّة، فيما القصص شَيءٌ مُعَدٌّ سلفاً مع سبْق الإصرار. إنّها تتطلّبُ اشتغالاً طويلاً، وبمُجرّد كتابتها أراها بعيدةً جدّاً، لكنّ الجميعَ يميلون إلى النظر إليّ بوصفي كاتبَ نثر». لقد عدّ بورخيس نفسَهُ شاعراً، وزاوجَ في كتابته بين الشعر والنثر، على نحو يَسمحُ بالتساؤل عن الحاجة الكتابيّة لهذه المُزاوجة، وعمّا يُحقّقهُ كلُّ شكل كتابيّ فيها لبورخيس، وعمّا يُحقّقه تآلفُهما الصامت في مُمارسته النصيّة، وعمّا تُضمرُه الوشيجة العميقة بينهما. فتصريح بورخيس بكونه، في الأصل، شاعراً يُقابلهُ نزوعُ مُعظم الدراسات عنه إلى تكريسه قاصّاً. ورغم أنّ تعارُض التآويل المُنجَزة عن أعمال المؤلّف مع تصريحه يُعدُّ جزءاً من شريعة القراءة ومن الحقوق الراسخة في الفعل القرائيّ، فإنّ ترجيحَ بورخيس لصفةِ الشاعر أمرٌ شديدُ الدلالة، وهو ما يفتحُ مسلكاً تأويليّاً غيرَ المسلك الذي يفتحهُ منحى تغليب صفةِ القاصّ. كما أنّ تأمُّل تجربته الكتابيّة من موقع مزاوَجته بين الشكليْن؛ الشعريّ والنثريّ، يشقّ هو ذاته طريقاً ثالثة للتأويل والمُقاربة. وفضلاً عن ذلك، تسمحُ هذه المزاوجةُ نفسُها بعدِّها، من زاوية أخرى، وحدةً تجلّت بوَجهيْن، وهو ما يفتحُ سبيلاً رابعاً للتأويل. ليس هذا التعدُّدُ في شِعاب القراءة، التي تُتيحها أعمالُ بورخيس، بغريبة عن هذا الأديب الذي ائتُمِنَ، في نُصوصه الإبداعيّة كما في تأمّلاته التأويليّة، على صناعة المتاهات، وعلى المعنى اللامتناهي، وعلى شقّ دروب القراءة التي لا تقودُ إلّا إلى الارتياب.
عموماً، لقد تحوّلَت المُزاوجةُ بين الشعر والسرد، في مُمارَسة بورخيس النصيّة، هي أيضاً إلى موضوع للتأويل، إذ أُنجزَت بشأنها تأمّلاتٌ مسّتْ حتى سبَبَ انشغال الدراسات النقديّة بكتابةِ بورخيس النثريّة أكثر من انشغالها بكتابته الشعريّة. صحيح أنّ ما ترتّبَ على بعض هذه التأمّلات، وما فتحتْهُ من أسئلة خصيبة وما أثارته من قضايا، انطوى على إشكالات تمَسُّ فِعل مُزاوجة بورخيس، في ممارسته النصيّة، بين شكليْن كتابيّيْن، لكن يبدو أنّ مُقاربة هذا الفعل عنده يُمْكنُ أن تنطلقَ في البدء، قبل الإنصات لتفرّعاتها وقضاياها، من العُنصر الموحِّد لمُزاوجةِ بورخيس بين الشعر والنثر، أي عُنصُر علاقته المصيريّة بسُؤال الأدب؛ أيّاً كان الشكلُ الذي فيه وبه تجلّى الأدب. فمزاوجةُ بورخيس بين الشعر والسرد مشدودةٌ، في العُمق قبل أيّ اعتبار آخَر، إلى افتتانه بالأدب، أي أنّ المُحرِّك الأساس لهذه المزاوجة، قبْل كلِّ ما يُمكنُ أن يترتّبَ على تأمُّل كلّ طرَف من طرفيْها وعلى مُساءلة العلاقة بينهما، هو الافتتان بمجهول الأدب الذي له نذرَ بورخيس حياتَه بكاملها، على نحو ما تبدّى من مسار هذه الحياة، وهو ما أقرّ به بورخيس نفسُهُ في «التقديم» الذي به خصّ طبعة «دار لابلياد» الفرنسيّة، بمناسبة نشْرها لأعماله «الكاملة». في هذا «التقديم»، صرّحَ بورخيس بأنّه أدرك، مُنذ طفولته، أنّ مصيرَه سوف يكون أدبيّاً، وبأنّهُ نذرَ حياته للأدب دون أن يتحصّلَ له في آخر حياته أيُّ يقين بأنّه قد عرفه.
الافتتانُ بالأدب إذن هو المرجَّح، في البدء، لاستيعاب المزاوجة بين الشعر والنثر قبل أيّ تأمّل لتفرّعات هذه المزاوجة ولِمَا يترتّبُ عليها من أسئلة تمَسّ مُمارسة بورخيس النصيّة، خصوصاً أنّ هذا الافتتان كان أسّ الحياة التي اختارَها بورخيس أو اختارَتْه، وكان أيضاً موجِّهاً لمسار بورخيس ومدارَ الانجذاب الذي حكمَ هذه الحياة، أيّاً كان الشكلُ الذي اتّخذه هذا الانجذابُ في المُمارَسة النصّية.
البيّنُ من مَسار بورخيس الكتابيّ أنّ انجذابه المصيريّ إلى الأدب الذي فيه ينصهرُ الشكلان الكتابيّان ويتفاعلان من داخل تبايُناتهما وفيه تتكشّفُ صلة هذا الأديب بالكتابة قبل تفرّعات المزاوجة في الشكل، اتّخذ تجليّات عديدة، منها:
- شسوع مقروء بورخيس الأدبيّ ومُلازمتُه للكِتاب بوصفه ضرورةً فيها تماهَت الحياةُ بالقراءة. لعلّ هذا ما قادَ بورخيس إلى عدِّ نفسه قارئاً في الأساس، وعدِّ ما قرأه أهمَّ ممّا كتبه. لا تعودُ هذه الأهميّة فقط إلى نوع المقروء، الذي تداخلَ فيه الشعرُ بالحكي ضمن الانجذاب المُشار إليه، بل تعودُ أيضاً إلى أمريْن اثنيْن كفيليْن بتأكيد استحقاق بورخيس صفة القارئ؛ أوّلهما شسوع مقروئه الأدبيّ، وثانيهما الطريقة المتفرِّدة التي بها قَرأ الأدبَ، سواء أتجلّى هذا الأدبُ في نُصوص شعريّة أم في نُصوص حكائيّة.
- تنصيص بورخيس على الطاقة المعرفيّة التي ينطوي عليها الأدب؛ شعراً كان أو حكياً. إنّها طاقة تُضاهي الفكر، بل قد تبلغُ مناطق لا يبلغها الفكرُ ذاته. لذلك، كان لافتاً أن يحرص بورخيس في مُحاضراته وأبحاثه ومقدّماته الغيريّة، على الاستشهاد، في الغالب العامّ، بالأدباء والمفكّرين لا بالنقّاد، لأنّ بورخيس خبرَ طاقةَ الأدب المعرفيّ، قراءةً وكتابةً. وبهذه الخبرة المكينة حوّلَ بورخيس الشعرَ والحكيَ حجّةً في إنتاج معرفةٍ عميقة بالقضايا التي عنها كتبَ وبها انشغل، أو عنها ألقى مُحاضرات، أو قدّم بشأنها حوارات.
- إدراك بورخيس أنّ مجهولَ الأدب لا يتكشّفُ، على مُستوى الممارسة النصيّة، اعتماداً على شكل واحد، بل لا بدّ له من أكثر من شكل، لأنّ الذهابَ نحو هذا المجهول لا يُفضي إلّا إلى الشكّ والارتياب. لعلّ أهمّ ما خلّفهُ بورخيس هو أساساً تلك النبرة الارتيابيّة المُخترقة لكتابته الشعريّة والنثريةّ من جهة، والطريقة التي بها صاغ هذه النبرة، من جهة أخرى، حتى ليُمكنُ افتراض أنّ ثمّة، في الأعمال التي خلّفها بورخيس، ظلالاً تنطوي على أسُس مُسعفة في تجميع ما يُتيحُ كتابةَ تاريخ الارتياب. وكمْ سيكون مُفيداً لو تتسنّى كتابةُ تاريخ الارتياب، على غرار الإفادة التي يُمْكن تحصيلها من كتابة تاريخ الانتحال، وتاريخ الحسد، وتاريخ الوَهم، وغيرها من التواريخ المُضيئة لمجهول الحياة، وللُغز الإنسان، ولأغوار النفس البَشريّة. إنّها تواريخ مؤجَّلةٌ، ينطوي الأدبُ على جُزء كبير من مادّتها الخصيبة. يُعدُّ بورخيس، بحقّ، واحداً ممّن أغنَوا المادّةَ التي تتطلّبها كتابةُ تاريخ الارتياب.
- حِرْص بورخيس على عدم التفريق بين شعره ونثره، وهو نفسُه صرّحَ قائلاً: «أنا لا أفرِّق بين شعري ونثري، غير أنّ الآخرين يفعلون». عدَم تفريق بورخيس بين شعره ونثره مسلكٌ تأويليّ لأعماله ينضافُ إلى تصريحه بأنّه في الأصل شاعر، خصوصاً أنّ التصريح صادرٌ عن قارئ خبرَ الحيَويّةَ الكبرى التي يكتسيها اختيارُ المداخل في التأويل. غير أنّ هذا المسلك لا يَمنعُ المقاربة، كما في الدراسات التي انبنَتْ على هذا التفريق، أن تشقّ سُبُلاً أخرى للتأويل مخالِفةً رأيَ صاحب العمل الأدبيّ. لربّما يعود حِرص بورخيس على عدم التفريق في مُنجزه الأدبيّ بين هذيْن الشكليْن الكتابيّيْن، وهو أمرٌ شديد الدلالة في هذا السياق، إلى رؤيته الأدب الذي نظرَ إليه دوماً باعتباره قائماً، في الأصل، على وَحدةٍ مكينة بين الشعر والحكي. لقد كان هذان الشكلان، في تصوّره، مُندمجيْن في البَدء، وهو لذلك يأمُلُ أن يستعيدَا وحدتَهُما في الآتي من الزمن. لعلّ هذا ما سوّغَ انحيازَ بورخيس، مثلاً، إلى الشعر الملحميّ بوصفه قائماً على هذا الاندماج.
- اهتمام بورخيس الفكريّ بسُؤال الأدب ومُمارستُه الكتابةَ اعتماداً على رؤية أدبيّة لا تفصلُ ماهيّتَها عن الفكر، كما لو أنّ قراءةَ بورخيس للنصوص الأدبيّة وكتابتَهُ للأدب لم يَعملا إلّا على تجسير الهُوّة بين الأدب والفكر، بما يُمكّنُ من استعادة وَحدتهما الأصليّة المفقودة والمحجوبة في الآن ذاته. إنّها الوحدة التي حرصَ بورخيس على إرسائها في نُصوصه القصصيّة وفي نُصوصه الشعريّة أيضاً، وامتدّ أثرُها حتى إلى بناءِ الشكل الكتابيّ عنده، خصوصاً في كتابته النثريّة التي كانت القصّة فيها تَبني أدبيّتَها بتداخُل مُحكم بين الحكاية والفكر.
- وعي بورخيس بحيَويّة الشكل في بناء النصّ الأدبيّ. فطاقة بورخيس الأدبيّة المُبهرة تُعزَى، من بين ما تُعزَى إليه، إلى صَوغه شكلاً كتابيّاً ذا وَجهيْن مُتشابكيْن إلى حدّ الالتباس، ذلك أنّ التداخل المحقَّق بين وَجْهَي الشكل الكتابيّ مُنتجٌ لبَينيّة هذا الشكل، ولقابليّةِ التفاتهِ نحو صيغتيْن والتحوُّلِ مِن إحداهما إلى الأخرى. وهو ما تحقّق بوجه رئيس في كتابته النثريّة التي كانت تُبنى في نقطة التماسّ بين الحكي والفكر، أي تماسّ الشكل القصصيّ بشكل المقالة البحثيّة. لكنّ نهوض الشكل البَينيّ على التماسّ بين الحكي والفكر لا يعني أنّ ظلالَ الشعر لم تكن ساريةً في هذا التماسّ. فمثلما تَسمحُ قصصُ بورخيس بقراءتها بوصفها فكراً، تسمحُ، في الآن ذاته، برَصْد سَريان الشعر فيها من خارج شكله المألوف، لأنّ الفكر في قصص بورخيس يقتاتُ الخيالَ بوجه رئيس. لعلّ هذا الأساس هو ما سوّغ، إلى جانب أُسُس أخرى، امتدادَ الفكر في نُصوص بورخيس الشعريّة. نصوصٌ حظيَ فيها الفكرُ بضيافةِ الشعر له، بصورة لا تتحقّق إلّا في الشعر وبالشعر، عبْر استعارات مشدودة إلى أنماط أصليّة بعيدةِ الغور، وعبْر إيقاع فكريّ خبرَ قوّةَ الكلمة في التركيب الشعريّ.
لعلّ هذا الافتتان بالأدب، الذي تماهى لدى بورخيس بمفهوم الحياة ذاتها، هو ما يُحدِّد، بوجه عامّ، انجذابَه الكتابيّ المُتّسمِ بصفةِ «ما لا يُقاوَم». إنّها صفةٌ حاسمة جعلَتْ هذا الانجذابَ مصيريّاً، سواء أتحقّق عبْر الشعر أم عبْر النثر الذي فيه انحازَ بورخيس إلى السرد القصصيّ. لقد ظلّ بورخيس حريصاً، في شعره كما في نثره، على إرساء الملمح الفكريّ للأدب، وإن استأثرَ نثرُه، لا شعره، بالاهتمام الأكبر في الدراسات المنجَزة عنه. لم يكن هذا الملمحُ الفكري في مُمارسة بورخيس الكتابيّة سوى عُنصرٍ من العناصر البانية لوَحدة الشعر والحكي، حتّى وإن ظهرا مُنفصليْن. ومن ثمّ، تسمحُ مُزاوجة بورخيس بين الشعر والسرد باستيعابها من خارج المقارنة أو المُفاضلة، وباستيعابها حتى من خارج مفهوم المزاوجة نفسِه، لأنّ الموجِّه الصامت، في مُمارسة بورخيس للكتابة، هو الوحدة الخفيّة التي تحكمُ علاقة الشعر بالحكي في منظوره؛ الوحدة التي تجعلُ الأدبَ غناءَ حكايةٍ وجوديّة، حكاية تُصاغُ بسحر الكلمات وبطاقتها التي عوّلَ عليها بورخيس كثيرًا. بهذا المعنى، يُمكنُ أن يعثرَ القارئُ على الشعر حتى في نُصوص بورخيس القصصيّة، ما دام الحلمُ والخيال يَخترقان الشكليْن الكتابيَّيْن معاً في مُمارسته. فرسوخ الخيال في إنجاز بورخيس للكتابة يجعلُ الحدودَ بين شعره ونثره هشّة، لأنّ تصوّره للأدب وللكتابة محكوم بوحدة مكينة بين الشكليْن، ومحكومٌ، على نحو صامت، بنشدان استعادةِ هذه الوحدة، حتّى وإنْ حرصت الدراساتُ التي تفرّقُ بين شعر بورخيس ونثره على الدفاع عن الاختلاف بينهما. فقد مالت بعضُ التآويل القائمة على هذا التفريق إلى عدِّ نُصوص بورخيس الشعريّة تجسيداً لذاته ولرؤاه الشخصيّة ولنظرته إلى الكون، خلافاً لنصوصه النثريّة التي تتضمّن أصواتاً عديدة. ورغم رجاحة هذا المنحى في التأويل، الذي قد يُبرز فروقاً بين شعر بورخيس ونثره، تبقى الوشائج المتشابكة بين الشكليْن أقوى متى تمّ تأوّلهما من موقع مفهوم الكتابة، ومن موقع الوحدة الخفيّة التي عليها يقوم الأدب في منظور بورخيس، ومن موقع بناء الأدب للفكر؛ البناء الذي إليه انحازَ بورخيس وعملت نُصوصه على ترسيخه. فالكتابة الأدبيّة عند بورخيس تقتاتُ الخيالَ، الذي ظلّ هذا الأديبُ وفيّاً له منذ أن صار الحُلمُ عادتَه على حدّ تعبيره، وتنتجُ فكراً قادماً من مناطقَ قد لا يبلغُها الخطابُ الفكريّ ذاتُه.

* مقتطفات من مقدمة الجزء الأول (ترجمة خالد الريسوني) من أعمال بورخيس الشعرية، التي ستصدر في ثلاثة أجزاء عن «منشورات الجمل». علماً أنّ أعمال بورخيس جميعها ستصدر عن الدار باتفاق مع اصحاب الحقوق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا