لا يغادر الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو (1945) أرض أسلافه. لكنه، في كل مرّة، يوسّع الدائرة قليلاً، يتأمل النصّ وما يجاوره لاكتشاف ثغرات القراءة السابقة له. يطرح في كتابه الجديد «في جوٍّ من النَّدَم الفكري» (منشورات المتوسط) احتمالات القراءة الأولى. فخصوصية الكتابة، وفقاً لما يقول «مرتبطة بنوعية القراءة. ماذا قرأت؟ وبادئ ذي بدء، ما هو أول كتاب قرأته؟ في كل مناسبة أقدِّم عنواناً مختلفاً حسب مزاج اللحظة، ومنعرجات الذاكرة، وحسب الشخص الذي يسألني ولغته والأدب الذي ينتمي إليه، فأقترح، بل أخترع كتاباً أول، أُبدع مرة أولى. ها نحن أمام مسألة البدايات». لن يطمئن إلى إجابةٍ حاسمة، إذ يتساءل: «هل هناك أصلاً مرة أولى؟ في أغلب الأحيان، لا تكون مؤكدة ومضمونة، سواء أتعلق الأمر بالقراءة أو بأمور أخرى. ما إن نعتقد الإمساك بها حتى نكتشف، وربما في الحين أو في ما بعد، أنها مسبوقة بأخرى. المرة الأولى في النهاية هي المرة بعد الأولى، وفي أحسن الأحوال المرة الثانية».
(باسو كانارسا)

سيحضر الجاحظ بالطبع، كمثال حيوي في معنى اقتفاء الأثر، وكشف المخبوء، ليس هذه المرّة وحسب، وإنما في كتب سابقة بوصفه حمّال أوجه وحبيس طريقة في الكتابة، أو الأسلوب. يشير صاحب «لسان آدم» إلى أنّه «هو الذي خلصني من شعوري بالنقص يوم أدركت أنه لم يكن يستطيع، أو على الأصح لم يكن يرغب في إنجاز كتاب بمعنى استيفاء موضوع ما والمثابرة عليه والسير قدماً دون الالتفات يميناً أو يساراً. هو نفسه يقرّ بهذا ويعتذر مراراً... على ماذا؟ كدت أقول على تقصيره، وما هو بتقصير. يعلل الأمر بتخوفه من أن يمل القارئ، والواقع أنه هو أيضاً كان يشعر بالملل ويسعى إلى التغلب عليه، وهذا سرّ استطراداته المتتالية». الاستطرادات التي تحيله في معجم الآخر إلى الكاتب الفرنسي مونتيني الذي كان يكتب «بالقفز والوثب»، أو الانتقال من فكرة إلى أخرى. ورغم ثراء مدوّنة عبد الفتاح كيليطو النقدية والمفارقة، إلا أنه يكتفي بما كان يردّده الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل: «أعتبر نفسي سعيداً إن تمكنتُ ببساطة، هنا وهناك، من إيجاد موطئ قدم على قطعة صغيرة جداً من أرض صلبة، في المستنقعات الضبابية المتقلبة».
في هذا الكتاب وسواه، يلجأ صاحب «حمّالو الحكاية» إلى الكثافة القصوى، بعيداً عن البدانة الورقية، في استنطاق الصمت لتفكيك ألغاز النصوص، بمصباح نقدي يضيء الدروب أمام القارئ، معوّلاً على اكتشاف أخطاء الكتابة الأولى، بإعادة صوغها، مرّةً تلو أخرى لمحو الهفوات وتصحيحها، إذ لا كتابة مكتملة، مثلما لا قراءة نهائية «هكذا تبدو كتاباتي عندما أعيد قراءتها نصوصاً مريضة يتعيّن علاجها، مع يقيني أن العلاج لا نهاية له» يقول. تكمن استثنائية عبد الفتاح كيليطو إذاً، في تبجيله موقع القارئ أولاً، واكتشافاته المدهشة خلال تجواله بين النصوص، إلى درجة استعارة عناوين بعض كتبه من الآخرين، كما يفعل في كتابه هذا، باتكائه إلى جملة من غاستون باشلار «إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإنَّنا نلفي الحقيقة في جوٍّ من النَّدم الفكري».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا