إن اقتصاد اليونان في حالة يُرثى لها. واجتاحت الثورات ليبيا وسوريا ومصر، مع وجود دُخَلاء ومحاربين أجانب يؤجِّجون نيران الصراعات داخلها. وتركيا تخشى أن تتورَّط في تلك الصراعات. والأردن تعجُّ باللاجئين. وإيران تُبدي نزعة عدوانية، وتطلق التهديدات، بينما العراق يعيش حالة من الاضطراب. أليس هذا هو الحال بين 2010-2020؟ بلى، ولكنه كان أيضاً الوضع في سنة ١١٧٧ق.م، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، عندما انهارت حضارات منطقة البحر المتوسط في العصر البرونزي الواحدة تلو الأخرى، مُغيِّرةً إلى الأبد مسار العالم ومستقبله. لقد كانت هذه لحظة محورية في التاريخ، مثَّلت نقطة تحوّل للعالم القديم.استمر العصر البرونزي في منطقة إيجه ومصر والشرق الأدنى ما يقرب من ألفَي عام، من سنة ٣٠٠٠ ق.م إلى سنة ١٢٠٠ ق.م. عندما حانت النهاية، بعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهت الحال بغالبية عالم أقاليم البحر المتوسط المتحضِّر والدولي إلى نهاية مأساوية في مساحة شاسعة تمتدُّ من اليونان وإيطاليا في الغرب إلى مصر، ومنطقة كنعان، وبلاد الرافدين في الشرق. وسرعان ما انهارت إمبراطوريات كبيرة وممالك صغيرة، كانت قد استغرقت قروناً لتتطوَّر. وبنهايتها حلت فترة انتقالية، اعتبرها الباحثون أول عصر ظلام يمرُّ به العالم. ومرت قرون قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في اليونان والمناطق المتضرِّرة الأخرى، ممهدةً الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.


على الرغم من أن كتاب «١١٧٧ ق.م: عام انهيار الحضارة» (2014) لإريك إتش كلاين (صدرت ترجمته العربية عن «مؤسسة هنداوي» ــ 2020) يُعنى في المقام الأول بانهيار حضارات العصر البرونزي والعوامل التي أدَّت إلى ذلك الانهيار منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلا أنّه قد يتضمَّن دروساً يمكن أن تستفيد منها مجتمعاتنا المعاصرة ذات الطابع العالمي والمتجاوزة للحدود الوطنية. قد يخال بعضهم أنه لا يُمكن أن تكون هناك مقارنة بين عالم العصر البرونزي المتأخر وثقافتنا الحالية المعتمدة على التكنولوجيا. مع ذلك، فثمة ما يكفي من أوجه الشبه بين الاثنين. أوجه تشمل البعثات الدبلوماسية وحظر التبادل التجاري الاقتصادي؛ وعمليات الخطف والفدية، وعمليات القتل والاغتيالات الملكية؛ والأعراس الفخمة وحالات الطلاق غير السارة؛ والمؤامَرات الدولية والتضليل العسكري المتعمَّد؛ والتغير المُناخي والجفاف؛ وحتى تحطم سفينة أو اثنتين، ما يجعل من النظر بمزيد من التدقيق في أحداث، وأشخاص، وأماكن حقبة كانت موجودة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام؛ أمراً يزيد عن كونه مجرد عملية أكاديمية متعلقة بدراسة التاريخ القديم.
في الاقتصاد العالمي المعاصر، وفي عالمٍ عصَفَت به الزلازل وأمواج تسونامي في اليابان وإضرابات «الربيع العربي» في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن، وتتشابك ثروات واستثمارات الولايات المتحدة وأوروبا في إطار نظامٍ عالَمي يشمل أيضاً شرق آسيا ودول الشرق الأوسط المنتجة للنفط؛ فإنه من المحتمل وجود الكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها من فحص البقايا المتناثرة لحضارات قديمة كانت هي الأخرى متداخلة قبل أن تنهار كلياً.
يبدأ الكتاب بغزو شعوبِ البحر لمصر سنة ١١٧٧ ق.م وينتقل من تلك النقطة إلى أماكن أخرى وسنوات سابقة. يأخذنا إلى العصر البرونزي المتأخِّر في الأيام المجيدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد، ويَستعرض مجموعة مختلفة من الحضارات من بلاد الرافدين إلى اليونان، ومن فلسطين المُحتلة إلى الحيثيين. وبعد ذلك ينطلق عبر القرون إلى الطرائق، والشخصيات، والأحداث التي قوَّضَت عالَماً. دخل المحاربون المشهد العالَمي وتحرَّكوا بسرعة، مخلِّفين في أعقابهم الموت والدمار. يشير الباحثون المعاصرون إليهم جُملةً بمسمَّى «شعوب البحر»، لكن المصريين الذين سجلوا هجومهم على مصر لم يستخدموا هذا المصطلح أبداً، محدِّدين هويتهم عوضاً عن ذلك باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معاً: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش؛ وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية. بخلاف ما تُخبرنا به السجلات المصرية، نحن لا نعرف عن هؤلاء الناس سوى القليل. لسنا متأكدين من المكان الذي جاءت منه شعوب البحر، ربما من صقلية، وسردينيا، وإيطاليا، حسب إحدى الفرضيات، أو ربما منطقة إيجه أو غرب الأناضول، أو من المحتمل حتى أن يكونوا قد جاؤوا من شرق المتوسط. لم يتم التعرّف أبداً على أي موقع قديم باعتباره مكان منشئِهم أو مغادرتهم. نعتقد أنهم كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم. وحسب النصوص المصرية، فإنهم أقاموا معسكراً في سوريا قبل الاستمرار بمحاذاة ساحل منطقة كنعان (تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية ولبنان وفلسطين المُحتلة) ودلتا نيل مصر.
كان الباحثون السابقون يميلون إلى أن يَنسبوا أي دمار وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. مع ذلك، قد يكون من قبيل الاجتراء أن يُلقى بلائمة نهاية العصر البرونزي، في إيجه وشرق المتوسط، برمتها عليهم. فذلك على الأرجح يمنح تلك الشعوب قدراً لا تستحقُّه من الأهمية؛ إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيّاً، مثل واحدة من الحملات الصليبية الأكثر انضباطاً العازمة على الاستيلاء على الأرض المقدسة أثناء العصور الوسطى؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيماً ضعيفاً، مثل الفايكينغ الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هرباً من كارثة ويَنشُدون بلاداً جديدة؟ بقدر ما نعلم، يمكن للحقيقة أن تتضمَّن مزيجاً من كل شيء أو لا شيء مما سبق.
مع ذلك، فإن شعوب البحر، طوال عقود من البحث العلمي، كانت كبش فداء مناسب، بتحمُّلها اللائمة على موقف ربما كان أكثر تعقيداً بكثير ولم تكن المتسببة فيه. إن الأمور الآن آخذة في التغيُّر؛ إذ إن العديد من الباحثين قد أوضَحُوا أخيراً أن «قصة» قيام شعوب البحر بموجة تدمير وحشي كارثية و/أو هجرتهم قد ابتدعها باحثون مثل غاستون ماسبيرو، عالم المصريات الفرنسي الشهير، منذ ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، وترسَّخت بحلول عام ١٩٠١. ومع ذلك، كانت نظرية مستندة فقط إلى الأدلة النصية المتعلِّقة بالنقوش، قبل أن يتم فعليّاً التنقيب في هذه المواقع المدمَّرة بوقتٍ طويل. في الواقع، حتى هؤلاء الباحثون الذي حذوا حذْو ماسبيرو، كانوا منقسمين في ما يتعلَّق بالوجهة التي سلكتها شعوب البحر؛ إذ اعتقد بعضهم أن تلك الشعوب انتهى بها الحال في منطقة غرب المتوسط بعد هزيمتها على يد المصريِّين، ولم تبدأ من هناك.
يبدأ الكتاب بغزو شعوبِ البحر لمصر سنة ١١٧٧ ق.م وينتقل إلى أماكن أخرى وسنوات سابقة


وجهة النظر الراهنة، أنه من المحتمل أن شعوب البحر كانت مسؤولة عن بعض التدمير الذي جرى في نهاية العصر البرونزي المتأخِّر، ولكن من الأرجح أكثر أن سلسلة متَّصلة من الأحداث، البشرية والطبيعية ــ بما في ذلك التغيُّر المناخي والجفاف، وكوارث زلزالية تُعرف باسم العواصف الزلزالية، وحوادث تمرُّد داخلية، و«انهيار للنظم» ــ تجمَّعَت لتشكل «عاصفة مثالية» وضعت حدّاً لهذا العصر. مع ذلك، من أجل أن نستوعب جسامة الأحداث التي وقعَت حوالى عام ١١٧٧ ق.م، علينا أن نبدأ دراسة قبل ذلك بثلاثة قرون، كما يورد الكتاب.
وطيلة أكثر من 300 سنة أثناء العصر البرونزي المتأخر، تقريباً من زمن حكم حتشبسوت الذي يبدأ حوالى ١٥٠٠ ق.م وحتى الوقت الذي انهار فيه كل شيء بعد عام ١٢٠٠ ق.م، استضافت منطقة البحر المتوسط عالماً دوليّاً مُعقَّداً تفاعل فيه المينويون والميسينيون والحيثيون والآشوريون والبابليون والميتانيون والكنعانيون والقبارصة والمصريون، فشكَّلوا نظاماً اتَّسم بطابع عالَمي وعولَمي لم يُرَ مثله إلا نادراً قبل وقتنا الحالي. ربما كانت تلك النزعة العالَمية ذاتها هي التي أسهمَت في الكارثة الساحقة التي قضَت على العصر البرونزي.
يبدو أن حضارات الشرق الأدنى ومصر واليونان كانت مُتشابكة ومُعتمِدة بعضها على بعض بشدَّة بحلول عام ١١٧٧ ق.م إلى درجة أنّ سقوط واحدة منها أدَّى في النهاية إلى سقوط الحضارات الأخرى. دُمِّرَت الحضارات المُزدهِرة، واحدةً تلو الأخرى، بفعل البشر أو بفعل الطبيعة، أو بفعل خليط مُميت من كليهما.
وأخيراً، يقرَّ الكتاب بعدم قدرتنا على أن نُحدِّد يقيناً سبب (الأسباب المتعددة) انهيار الحضارات والانتقال من نهاية العصر البرونزي المتأخِّر إلى العصر الحديدي في إيجه وشرق المتوسط، أو حتى أن نُحدِّد بشكل قاطع أصول ودوافع شعوب البحر. علاوة على ذلك، كما صرح كريستوفر مونرو، فإن «كل الحضارات تتعرَّض في نهاية الأمر لإعادة هيكلة عنيفة للحقائق المادية والأيديولوجية من قبيل التدمير أو إعادة التشكيل». نشهد هذا في البزوغ والأفول المستمرين للإمبراطوريات عبر الزمن، بما في ذلك الأكاديون والآشوريُّون والبابليون والحيثيون والآشوريون الجدد والبابليون الجدد والفرس والمقدونيون والرومان والمغول والعثمانيون وغيرهم، ولا ينبغي أن نعتقد أن عالَمنا الحالي في منأى عن ذلك؛ لأننا أكثر عرضة لذلك مما قد نودُّ أن نَعتقِد.
وبينما يتضاءل انهيار بورصة وول ستريت في عام ٢٠٠٨ في الولايات المتحدة وجائحة كورونا مقارنةً بانهيار عالم منطقة البحر المتوسط في العصر البرونزي المتأخِّر برمته وطاعونه، لكن ربما يكون النظام العالَمي الحالي قد وصل إلى نقطة تحوُّل حاسمة، النقطة التي تتحوَّل فيها أزمة ما تدريجاً إلى انهيارٍ كامل، ويُصبح صعباً على الحكومات أن تحتويها. وفي نظام معقَّد مثل عالَمنا اليوم، هذا كل ما يمكن أن يستلزم ليصبح النظام بكامله مزعزعاً، مما يؤدِّي إلى الانهيار.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا