«لا أرغب في الكتابة إلا وأنا في وضع قابل للانفجار، فريسة الانفعال أو الانقباض، في ذهول متحول إلى هيجان، في جوّ انتقام تحل فيه الشتائم محل الصفعات واللكمات. يبدأ الأمر عادة هكذا: رجفة خفيفة لا تلبث أن تشتدّ شيئاً فشيئاً، مثلما هو الشأن بعد شتيمة تلقيناها دون أن نردّ عليها. العبارة تساوي الرد المتأخِّر أو الاعتداء المرجَأ. أكتب كي لا أقع في ردّ الفعل المباشر وكي أتجنّب أزمة. العبارة تنفيس، ثأر غير مباشر يحقّقه من لا يستطيع أن يصبر على إهانة وليس له غير الكلام كي ينتفض على أشباهه وعلى نفسه»*.

بينما تغطّي كتب «صانعي الفرح» رفوف المكتبات، تبدو أعمال إميل سيوران (١٩١١ ـــــ١٩٩٥) استثناءً محبّباً نعرف فيه أن ثيمات مثل اليأس والقلق والرعب هي بديل خارق للبحث النهم والممل عن الطمأنينة. قرون طويلة مرت على عصور «الأنوار» وعقلنة الإنسان والمجتمع، لكن القرن المنصرم ومطالع القرن الحالي قد قذفا في وجوهنا كل الحلول المجترحة الممكنة: من الليبرالية إلى التوتاليتارية وعودة المدّ الديني والأصولية في المجتمعات كافة. حلول وضعت البشرية أمام المخاطر الكبرى وهي تدّعي اجتراح المعجزات: قضى إميل سيوران حياته في التنقيب، بدقة صاقل الجواهر، في مناطق الظل وفيالق الزلازل الإنسانية، حيث تكمن «الأفكار السوداء»، كما أوضحت سوزان سونتاغ في نقدها لأعمال العملاق المهاجر إلى فرنسا من رومانيا التي «في لحمها تسيل بيزنطة وتـتسكّع مرة في أوروبا ومرة في الشرق» كما يقول شاعرها مرسيا دينسكو. كتابة سيوران ترتفع عن كلّ منهج فلسفي، إذ لا يصوغ صاحب «المياه كلها بلون الغرق» أفكاراً ضمن نسق معين أو يسعى لاختراع المفاهيم: أن نفكر، بحسب سيوران، هو أن نحدد وضعية هي أقرب لتناقضات كائن فرد يقف وحيداً أمام الوجود منها إلى البراهين التي يبحث عنها العقل المفكر. يبدو سيوران كآخر المنتمين إلى تلك السلالة القديمة من العظماء ممن نزلوا بالفكر إلى الشارع وجعلوا منه طريقة للعيش، حيث يختفي ذلك الحد بين العام والخاص، لتصبح الحياة بأسرها «تمارين في الإعجاب» (1986)، وهو عنوان كتابه الذي تُرجم أخيراً إلى العربية عن «منشورات الجمل» بترجمة آدم فتحي. تبدو صورة صاحب «مثالب الولادة» أقرب إلى بورتريه معاصر لديوجين الكلبي مخالفاً الآخرين في سعيهم نحو الكمال الإنساني. إذ أن صاحب «تاريخ ويوتوبيا» المهووس بالتاريخ كان شغوفاً بكلّ شيء، إلّا بالمطلق واليوتوبيا، رغم اتهامات له في شبابه بمحاباة فاشية يمينية رومانية. أمر لم ينكره بالمطلق: «أفكر في أخطائي الماضية ولا أريد أن أتنكّر لها؛ سيكون الأمر بمثابة الدوس على شبابي، وهذا ما لا أريده بأي ثمن». كان في اختيار سيوران للفرنسية لغةً للكتابة وهجره نهائياً للغته الأم عام ١٩٤٦ نوعاً من النحت في الصخر، إذ أن هذه اللغة قد أخذت برأيه شكلها النهائي في القرن الثامن عشر وتحوّلت إلى «لغة ميتة»، ملزماً نفسه أن يفكّر بالفرنسية ضد نفسه، وأن يفكّك لغته الأم على ضوء لغة «هندسية، فقيرة شعرياً ومنزوعة القداسة»، ليعيد كتابة مؤلّفه الأول بالفرنسية «رسالة في التحلل» لمرات أربع، حيث ينفي الكاتب نفسه «خارج الكلمة» وحيث يكون «تغيير اللغة بالنسبة للكاتب كتغيير الديانة».
يبدو سيوران أكثر ثقة في صياغة المشكلات لا الحلول، وتكون الكتابة مرآة ناصعة لتأمّل وإثبات وتصحيح لوضعية الكائن أمام الوجود. بأناقة الأسلوب، والشذرات التي تلمع كالبرق الشعري، وأصالة الكلمات الحادة كالنصل، تبدو أعمال سيوران أشبه بلعبة في الفكر ولعبة في اللغة، تنطلق من الحياة وتعود إليها، بحيث يتحول الانتحار مثلاً إلى أقنوم أدبي وإلى فرضية تساعد على الحياة. في تمارين سيوران، نقرأ أن «الكتابة ثأر للمخلوق وردّه على خليقة غير متقَنة».

مقطع من «تمارين في الإعجاب» ـــ ترجمة آدم فتحي ــــ منشورات الجمل، ٢٠٢٠

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا