لعلّ كتاب «اليسار الفلسطيني وانحساره: معارضة موالية» (بالغريف ماكميملن ــ 2020) هو المؤلف الأول الذي ينظر إلى تجربة اليسار الفلسطيني الماركسي، ممثلاً بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعين ناقدة، وإن أتت من كاتب أوروبي، أي من خارج الساحة الفلسطينية. الكاتب الإيطالي، وهو فرانشيسكو سافيريو ليوباردي، الباحث في قسم الدراسات الآسيوية والشمال-أفريقية في جامعة «كا فُسكاري» في البندقية. ركّز في عمله الطليعي هذا على المرحلة الواقعة بين اجتياح العدو الصهيوني للبنان واحتلال بيروت، وتبلور الانقسام الفلسطيني بين حركة «فتح» وتنظيم «حماس» الإخونجي عام 2007، إذ يرى أنه كرّس تهميش الجبهة على نحو نهائي وتأثير ذلك في أوضاع اليسار الفلسطيني.

يقول الكاتب في مقدمة العمل (الفصل الأول) أنّه كان على البديل المفترض الذي جسّده اليسار الفلسطيني أن يواجه تناقضات كبيرة في عمل منظمة التحرير ستظهر بكامل قوتها بعد التغييرات الصادمة الناتجة من اجتياح عام 1982، وأصبح المشروع السياسي المضاد للهيمنة الذي ينافس استراتيجية فتح للتحرير [كذا!] يتعارض على نحو متزايد مع الجبهة والولاء المطلق لليسار الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية (التابعة لـ «فتح» – ز م). مثل هذه «المعارضة الموالية» استلزمت في نهاية المطاف التخلّي عن كل دور ضد الهيمنة، ما يقوّض مسوّغ وجود اليسار الثوري الذي لا يزال، على وجه الخصوص في حالة الجبهة، ملتزماً اسمياً بإنشاء دولة اشتراكية ديمقراطية في فلسطين. وانطلاقاً من هذا، يفحص هذا المؤلف الوكالة السياسية (political agency) للجبهة لكشف النقاب عن كيفية حدوث هذا التنازل ولتوضيح الديناميكيات والسلوكيات التي أنتجتها. هذا يعني تفسير عملية تراجع الجبهة الشعبية على أنها نتيجة لصياغة سياسة غير فعالة وليس نتيجة ميكانيكية لأحداث خارجية مصيرية مثل هزيمة الأنظمة الشيوعية. يوضح الكاتب: لأن انتظار تحليل مركز للجبهة وتهميش اليسار الفلسطيني قد طال، فإن هدف هذا المؤلف البدء بتعويض هذا القصور في التأريخ السياسي الفلسطيني. يعتبر هذا النوع من وجهات النظر حول السياسة الفلسطينية أكثر إلحاحاً، حيث تعاني الحركة الوطنية الفلسطينية أزمة لا يمكن حلها حرمت الجهات الفاعلة الرئيسة فيها من كثير من شرعيتها السياسية. وبالتالي، فإن غياب اليسار الفلسطيني الموثوق به هو جزء لا يتجزأ من الشلل السياسي الحالي في وقت الهجمات غير المسبوقة على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على الصعيدين المحلي والعالمي.
يناقش الفصل الخامس العقد الذي شهد بداية ما يسمّى عصر عملية السلام


عالج الكاتب مختلف محطات موضوع البحث في ثمانية فصول ذات عناوين دالة. الفصلان (الثاني «الخروج من بيروت: سنوات الانقسام»، والثالث «توهم محور المقاومة: سياسات الجبهة الشعبية الخارجية خلال الثمانينيات») يتناولان السنوات 1982-1987 التي شهدت أول انقسام كبير لمنظمة التحرير. يركز الفصل الثاني على أجندة الجبهة تجاه الوضع الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومحاولاتها بناء بديل «جذري» لاستراتيجية عرفات التفاوضية. على الصعيد الفلسطيني، استند هذا البديل إلى محاولات إقامة جبهة يسارية قومية معارضة لخطط السلام التي ترعاها الولايات المتحدة، ما أدى بالجبهة إلى البحث عن علاقة أوثق مع سوريا والاتحاد السوفييتي وهو موضوع الفصل الثالث. يرى الكاتب أنّ الجبهة أثبتت أنها غير قادرة على التوفيق بين العناصر المتناقضة في وكالتها السياسية، ما قاد إلى تأرجح خطها بين رفض استراتيجية عرفات التفاوضية وضرورة حماية الاستقلال الفلسطيني من الضغوط السورية ومن تشرذم اليسار الفلسطيني. كان الدور الصغير للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الفشل النهائي لاستراتيجية عرفات في عام 1987، إلى جانب عدم قدرتها على الحد من قوته المتزايدة داخل منظمة التحرير بمثابة خطوة رئيسة أولى في تهميشها. يغطّي الفصل الرابع (الانتفاضة الأولى: التهميش النهائي) النصف الأول من الانتفاضة الأولى (كانون الأول 1987) إضافة إلى الترسيخ السابق لفصائل المنظمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (عام 1967 – ز م). قدم التوازن السياسي المختلف الموجود بين الفصائل الفلسطينية في تلك الأراضي إضافة إلى استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية فرصة ثمينة لتجديد عمل الجبهة الشعبية في السياسة الفلسطينية. مع ذلك، عادت مصادر عدة للضغط لتطاردها، منها الحرص على وحدة المنظمة وظهور البديل الإخونجي، لكنها استمرت في نهاية المطاف في التأرجح بين اتجاهات براغماتية إيجابية، أي نفعية أو مراعية للظروف، دوماً وفق تعبيرات الكاتب.
الفصل الخامس (حلول العملية السلمية: من الرفض إلى قبول «فرساي الفلسطيني») يناقش العقد الذي شهد بداية ما يسمى عصر عملية السلام، ويتناول على وجه الخصوص رد الجبهة على اتفاقيات أوسلو 1993 وتنفيذ عملية بناء الدولة لسلطة الوطنية الفلسطينية. بذلك، يلخّص هذا الفصل تحوّل الجبهة من الرفض التام إلى القبول بنظام ما بعد أوسلو السياسي. ويركز هذا الفصل على معظم فترة التسعينيات، بما في ذلك رد فعل الجبهة على أحداث مصيرية من حرب الخليج عام 1991 إلى هزيمة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى معالجة إخفاق أجندة الجبهة والجهود التي تلت ذلك للمصالحة. يتناول الفصل السادس (انتفاضة الأقصى وما بعدها: عودة ظهور التناقضات والتهميش النهائي) السنوات التي أكدت تهميش الجبهة من خلال انتفاضة الأقصى 2000-2005 وتطور الانقسام بين «حماس» و«فتح» بين عامي 2006 و2007، ويوضح تقلباتها وفقدان أهميتها في ما يتعلق بديناميات مسار الانتفاضة الثانية مثل العسكرة والتشرذم السياسي الفلسطيني وتنامي الاستقطاب بين «فتح» و«حماس». يتناول الجزء الأخير من هذا الفصل جهود الجبهة للاندماج في ما بعد الانتفاضة، والأهم من ذلك، السيناريو السياسي بعد عرفات. في هذه المرحلة، استمرت معضلة اندماج المعارضة في الظهور مع استمرار الجبهة الشعبية في التأرجح بين طرفي الصراع بين «حماس» و«فتح». أظهر توافق الجبهة النهائي مع السلطة الوطنية الفلسطينية بروز التكامل داخل الكتلة المهيمنة التقليدية، ما يسلط الضوء على عدم قدرتها على الانسحاب من الإطار السياسي المختل. يقدم الفصل السابع (مسارات التقهقر والتجديد: الجبهة الشعبية والمسارات اليسارية عبر الزمن) بعض الاعتبارات التحليلية والنظرية من خلال تجاور مسار الجبهة مع مسار الحركة الشيوعية المصرية وحزب العمال الكردستاني، والفصل الثامن يلخص استنتاجات المؤلف.
في الوقت الذي نأمل أن يقود هذا العمل إلى تفاعل مفيد في الساحة الفلسطينية، أقول: كم تمنيت لو أن هذا المؤلف صدر عن الجبهة نفسها أو عن أي من أطراف اليسار الفلسطيني أو إحدى شخصياته.

The Palestinian Left and Its Decline: Loyal Opposition

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا