«العراقي كائن عجيب متشكّل من أقدار مدمّرة، من قساوة منقطعة النظير، العراقي دمه محروق على الدوام، فكيف تريده أن يقتنع بمكان!». هكذا تكلّم الشاعر العراقي المهاجر عبد الخالق كيطان صاحب ديوان «نازحون» الحائز جائزة الراحل عبد الوهاب البياتي عام 1988، وقد وصفت لجنة التحكيم آنذاك شعره بأنه «شعر ناتئ، نصّ عارٍ في شعر ليس ناعماً، لكنه ينعم في بحبوبة الكلام الملقى جزافاً». إنه عبد الخالق كيطان، هذا الشاعر الذي لا يقول حين يتكلم كلاماً بل يقول شعراً، فهو القائل إنّه «كان مهووساً بالتجريب، لكن جاءت الحرب لتقلب الموازين، ولتصبح الحياة أهم من الشعر والقصيدة، فصار الشاعر يفتّش في الواقع عن قصص تصلح لتكون قصائد». على حدّ تعبيره: «لم أكن وحدي صاحب لغة حادّة بل الواقع كان حادّاً». لذا نرى في قصائده الواقع من دون تزييف، ذلك الواقع الممزوج بالإبداع والألم. لم يحمل عبد الخالق كيطان في حقيبته وأسفاره سوى ألمه وقدره الشعري، إذ أن الحياة نصبت له الكثير من الكمائن التي ما كان لينجو منها لولا الشعر الذي اختاره مرفأً ليعيد منه خلق العراق الذي قال إنه خرج منه وهو يكره الحياة. لكن أستراليا أعادت له حب الحياة، فهي لم تشعره بالغربة لأنها وطن المهاجرين، لربما أعادت بعث العراق من جديد في نفسه وهو المسكون بهاجس القضايا العربية.


يعود هذا الشاعر بديوان جديد في عام 2020 المليء بالأزمات والكوارث، التي شلّت حركة البشر وجعلتهم في منفى قسري داخل بيوتهم إلى أجل غير مسمى. قبل أن ندخل في قصائد ديوانه الجديد «النوم في محطة الباص» (دار الورشة ـ بغداد)، نتوقف عند العنوان الذي يعدّ عتبة مهمة جداً للتعريف بالنص لما يحمله من رمزية.
مَن قرأ دواوينه السابقة وعرف النزر اليسير عن تجربته الحياتية والشعرية، يوقن أنّ «النوم في محطة الباص» يلخّص عبارة قالها عبد الخالق في حوار له بأنّه «هارب من شيء لا يعرف ما هو»، أي أنه غير مرتبط بمكان، بل هو في حالة فرار وانتظار دائم، متأهّب للذهاب إلى مكان لم يتّسع له أفق الرؤية، ولربما مكانه المخيالي هو العراق الذي تمناه وأراده.
عندما تقرأ قصائد هذا الديوان الواحدة تلو الأخرى، تتشكّل لدينا الرؤية، وتتجلى لنا المشاهد، أو لنقل المشاهد التي حاول أن يرسمها المؤلف عبر قصائد يتسع من خلالها فضاء الرؤية، وهو القائل عن نفسه إنّه تعلم من معلّمه الأول بدر شاكر السياب فضاء الرؤية. هذا الفضاء الذي سمح لنا أن نطلّ على العراق اليوم وعراق الأمس عبر قصائد تتحدث عن الحياة وعبثها، تتناول الهجرة غير الشرعية لمن ضاقت بهم الأوطان: «هذه الحياة مستودع للعبث والعنف/ وأنت وحدك أيتها الموجة، من تستطيعين حماية أطفالنا». كتب أيضاً، وهو العراقي، قصيدة تشي بالألم في صدقه الموجع بعنوان «نزهة المشتاق في شوارع العراق»: «لا أقسم بالجثث والرؤوس القطيعة/ بل بالوطن الذي يدمن النسيان./ أقسم بالجواري،/ بالمصاحف، / بأن البلاد محض اكتئاب... /مناسبة مستمرة للعويل».
ولأنّ الفقدان أحد الهواجس التي تؤرق الشاعر وتجعله يكتب شعراً، فإن كيطان وصف الفقدان بعبارة توثق للحضور أكثر منها للفقدان: «كل يوم أتفقد رأسي كي أتقين أنك ما زلت مقيماً ولم تبرح مكانك». يتناول في مجمل قصائده الحرب وآثارها على الإنسان وما يمكن أن تتركه، بخاصة على الفرد الذي غادر وطنه مرغماً. سيظل دائماً ينخره وجع لا يعرف كيف يسكنه ولا متى سيخف: «إننا قد نلحق بغدٍ قد يكون بلا قتلى/ أو ربما وضع إكليل من الزهور على قبر جندي أوهمناه بالشعارات: حروب تدور، طائرات تقلع، وقذائف تتساقط مثل الغبار الأحمر/ ولكنك لا ترين ذلك».
في قصائده تصوير واقعي وحقيقي للسياسات العربية التي دمّرت شعوباً بأسرها من دون أن يرفّ لها جفن، فالمطّلع على قصائده يدرك تماماً أنه حدد هذا الشرخ الأخلاقي في أكثر من موضع: «المكان وبرغم المدنيين، يصير ساحة معركة لا تمتّ للشرف بصلة».
تعلّم من معلّمه الأول بدر شاكر السياب فضاء الرؤية


لا شك في أن من يقرأ ديوان كيطان ويشاهد حواراته، يدرك تماماً أنه أمام شاعر حقيقي يكتب شعراً واقعياً ينطلق من اليوميات. شعر قصصي، يشبه إلى حدّ ما السيرة الذاتية. شعر يقول الكثير عن عالم محفوف بشعراء السيلفي والفيسبوك، هو الذي قال في حوار له أخيراً إنّ الشعر أصبح صعباً، خاصة مع الفضاء الهائل من المعلومات التي غدا فيها الشعراء أكثر من القراء أنفسهم. كما ذكر في الحوار ذاته أن السيرة الذاتية غير مرتبطة بالعمر كما كنّا نتصورها، وإنما هي لون أدبي وشعري قائم بحد ذاته. هذا ما لمسناه في ديوانه «النوم في محطة الباص»، فهو سيرة شعرية ذاتية تصوّر الواقع بشيء من السحرية الفانتازية بما يمتعنا وما يعود بنا إلى الواقع العربي المتشظي. فعلى حد تعبيره: «الشعر هو أن تلتقط شيئاً من الواقع، ولكن عليك إعادة تمثيله». لعل المنفى أعاد إحياء ذلك التشظي وذلك التمثيل للواقع عند كيطان ليكتب شعراً. كما أنه كتب عن الحب والمرأة رغم أنه وصف نفسه بالعاشق الفاشل، إذ قال: «أنا عاشق فاشل من سوء حظي ومن سوء قلبي».
ترى كم لزمه من الندبات ليكتب بهذا الشكل المؤلم قصائد تجعل من قارئها يعيشها كأنه كاتبها: «وحتى تزهر ندبتك يلزمك المزيد من الدموع». قال في ديوانه:
«هؤلاء أنجبتهم الضرورة لذا تراهم يكثرون من الصراخ».
ولكن الشعر وحده كان محطّة الباص لعبد الخالق كيطان التي لا يمكن النوم فيها لأنها دائماً تأخذنا إلى مناطق لم نكن لنفكر أننا سنسافر إليها شعراً وأدباً. هذا هو الشعر الذي يجعلنا ننتفض، الشعر الذي يؤثر فينا من الداخل ويجعلنا نكتب. تنطلق تجربة عبد الخالق كيطان الشعرية من الواقع، لتظلّل بظلالها الشعر والأدب، إنه بحق موهبة عربية استحق الوقوف عندها كثيراً ونحن نشهد إحياء الشعر من خلال نوبل للآداب هذه السنة والتي احتفت بالشعر بفوز الشاعرة الأميركية لويز غلوك.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا