شارون روتبارد: تل أبيب «مدينة سوداء»

  • 0
  • ض
  • ض

شارون روتبارد: مدينة بيضاء، مدينة سوداء - أسلوب بناء وحرب في تل أبيب ويافا. Sharon Rotbard, white city, black city: architecture and war in tel aviv and jaffa. translated from hebrew: orit gat. pluto press 2015. 244 pp.

هذا المؤلف، الثري بمختلف المصورات، أثار غضب الصهاينة، لكن صدرت منه 26 طبعة بنصه الأصلي، أي باللغة العبرية. والكاتب، شارون روتبارد، أستاذ محاضر في «أكاديمية بلزيل للفنون والتصميم» في فلسطين المحتلة، وصاحب مقعد الفنون المعمارية في «كلية كير» في الهند. موضوع الكاتب فضح طبيعة مدينة تل أبيب التي يدعي العدو أنها أول مدينة يهودية صافية أقيمت في العصور الحديثة [كذا!]. يوضح عبر مؤلفه «مدينة بيضاء، مدينة سوداء - أسلوب بناء وحرب في تل أبيب ويافا» المفصل أنّ هذه المدينة أقيمت على حساب مدينة يافا الفلسطينية، عروس البحر، التي يقول علماء الآثار إن عمرها خمسة آلاف عام. الهدف هو استيعاب المدينة الفلسطينية ومحو آثارها. من المعروف أن تل أبيب أخذت اسمها من رواية تيودور هرتسل (Altneuland/ بلاد عتيقة جديدة)، وترجمها ناحوم سوكولوف إلى الإسرائيلية باسم تل أبيب، بمعنى تل الربيع، الاسم المأخوذ أصلاً من سفر حزقيال 15:3 القائل «فجئت إلى المسبيين عن تل أبيب الساكنين عند نهر خابور...»، والمعروفة تقليدياً بأنها منطقة واقعة في شرقي سوراقيا. المدينة ـــ دوماً بحسب الكاتب ـــ توسعت على حساب عروس البحر يافا عام 1948 عندما طرد الصهاينة عبر البحر أهلها، الذين بلغ عددهم عندئذ نحو مئة ألف نسمة. غرق كثير منهم، وقد ابتدعت اللغة الإنكليزية مفردة جديدة لوصف هذه الجريمة المزدوجة هي (urbicide)، أي «الإبادة المدينية». عاش الكاتب فترة طويلة في المنطقة، ما أهله للحكم على طريقة توسع تل أبيب، الذي تم عبر تدمير البيئة التي نشأت مدينة يافا فيها. قام الصهاينة بإزالة التربة السوداء على عمق مترين بهدف وضع أسس مدينتهم الجديدة المسماة «المدينة البيضاء». على سبيل المثال، يصف الكاتب بالتفاصيل كيف قامت عصابات إرغون بمحاصرة يافا عبر تكتيك عرف باسم "مصيدة الفأر"، حيث أقفلت مداخل المدينة كافة وحاصرت أهلها الذين ألقي بهم في البحر وقضى الآلاف منهم في عملية التطهير العرقي التي قادتها العصابات الصهيونية. يشدد المؤلف على أن مصير أهلها لم يعرف إلى الآن. تدمير يافا، المدينة السوداء، تم عبر إخلاء كل ما هو غير مرغوب من تل أبيب، المدينة البيضاء، ومن ذلك تلال النفايات والتمديدات الصحية وأنابيب المجاري والمحولات الكهربائية عالية القدرة ومحطات الحافلات والمعامل التي تقذف بنفاياتها في سماء المدينة والمواخير والكازينوات ومتاجر الجنس ومقار الشرطة والسجون وما إلى ذلك. هذا حوّل المدينة إلى مقر للمهمشين والمدمنين على المخدرات. الكاتب يذكر القراء بأن تل أبيب حظيت بمجموعة من الجوائز بمقدار الجرائم التي ارتكبت بحق المدينة الفلسطينية العتيقة. كما يتعامل الكاتب مع الجانب الهندسي من تخطيط مدينة تل أبيب الذي يتم مواكباً السياسة القائمة على التدمير والبناء وهو المبدأ الذي يشكل جوهرها. أما الصفة المدينة البيضاء، فتأتي من كونها تحوي أكثر الأبنية المقامة على طراز باوهاوس (Bauhaus) الألماني، لكن هذا أمر غير مؤكد لأنه حتى الآن لا تتوافر أي دراسة مقارنة عن الموضوع. الحقيقة أن طراز باوهاوس الذس أسسه وطوره كل من فالتر غربيوس ومسز فان در روهِ، مفترض أنه بناء اجتماعي، لكن أسعار تلك الأبنية في مدينة تل أبيب لا علاقة لها بالبناء الاجتماعي، فأسعارها يحددها السوق والمضاربات العقارية.

يفضح طبيعة تل أبيب التي يدعي العدو إنها أول مدينة يهودية صافية أقيمت في العصور الحديثة
كل ما سبق عرضه هو حقائق معروفة، لكن الصهيونية، التي تبحث دوماً عن قشة تمنحها الشرعية الإيديولوجية، تمكنت من فرض اعتراف منظمة «اليونسكو» عام 2003 بكونها من مواقع التراث الإنساني، مع أن عمرها لا يتجاوز القرن، وعلى حساب مدينة يافا المحتلة التي بقيت مأهولة من دون انقطاع لمدة خمسة آلاف سنة. ومن الأمور الطريفة قيام ناشطين فلسطينيين عام 2013 بتأسيس مدينة خيام على أرض خاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أقيمت عليها لاحقاً مستعمرة صهيونية وأطلقوا أيضاً عليها اسم رواية هي «باب الشمس» للكاتب اللبناني إلياس خوري. قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أجزاء يحوي كل منها فصولاً عدة. الأول «المدينة البيضاء» مختصر خصصه للحديث عن تل أبيب ويوضح كيف أن تاريخ المدينة كتب قبل ولادتها، متذكرين أن اسمها ورد في رواية صدرت في القرن التاسع عشر. الجزء الثاني «المدينة السوداء»، وهو الأطول، عن المدينة التي لم تعد قائمة، فأضحت «موسوعة الخراب». شاون روتبارد يؤكد من خلال متابعة تاريخ المدينة الفلسطيني؛ بأنّ كل ما تحقق في تل أبيب من توسع تم على حساب يافا، ومن المعالم التي تعرض إليها بساتين البرتقال، برتقال يافا، التي كانت تحيط بالمدينة، ويعلق على الأمر بالقول: "إن برتقال يافا الشهير عالمياً صار يزرع في كل أراضي فلسطين، باستثناء يافا. عندما أقدم العدو على تجريدها من معلمها التاريخي، فقد ألغاها من الوجود لحساب مدينته المصطنعة". وهنا تتأكد من جديد مقولة الكاتب إن الهندسة المعمارية تستخدم أداة حرب واضطهاد، والتأثير في الثقافة والتاريخ والجغرافيا. الجزء الثالث والأخير خصصه للحديث عن الحداثة كونها أحد أشكال الاستعمار الأوروبي، وتل أبيب انعكاس للاستعمار. يذكر الكاتب القراء بحقائق تاريخية تكمن في أن مبدعي الباوهاوس ميز بان دي روه ولوكوربوزييه حاولا العمل مع كل من هتلر وحكومة فيشي الفرنسية العميلة، ما يوحي بأنّه يماثل بين مؤسسي مدينة تل أبيب والمهندسَين آنفي الذكر. أخيراً، يربط الكاتب حاضر مدينة يافا الفلسطينية بتاريخ الاستعمار الفلسطيني الذي عمد في 16 حزيران (يونيو) 1936 إلى إخلاء المدينة القديمة من أهلها الفلسطينيين وتدمير 237 مبنى فلسطينياً لشق طريق واسع إلى مرفأها، وهو أمر كرره مجرم الحرب شارون في كل من رفح في عام 1971 وفي جنين في عام 2002.

0 تعليق

التعليقات