تتحرّك المشاهد في روايات مارغريت دوراس (1914 ـــ 1996)، في مكان واحد يلتقي فيه الأدب والسينما. تنسى فيه دوراس الحدث وتسلّط الضوء على السيناريو الذي يدور بين الشخصيّات، حيث تعطي للصمت مكاناً في الحوار، فلا تقول كلّ شيء عن شخصياتها، كأن هدفها ليس أن تقول قصة بل أن تسرد المشاهد المتفرقة تماماً، كما قالت في كتابها «الروائي والكتابة»: «أن تكتب هو أن تصمت أحياناً أو أن تصرخ بلا ضجيج، لأن الكتاب هو المجهول، هو الليل، هو المغلق».في روايتها «نائب القنصل» (1965) التي صدرت ترجمتها أخيراً عن «منشورات الجمل» (ترجمة مبارك مرابط)، تفتح الروائية الفرنسية الباب على مشهد سينمائي لفتاة هاربة من أمها تحمل جنينها من علاقة محرمة لتجتاز الهند الصينية من كمبوديا إلى كلكوتا في الهند، سائرةً على قدميها لمدة عشر سنوات. إنها العلاقة الجامحة مع المجهول الذي تذهب إليه الفتاة بقدميها ولا تعرف كيف يكون وما شكله. تذكر مارغريت دوراس أن بيتر مورغن هو من يكتب قصتها، ويدمج سيرتها مع سيرة آن ماري ستيتر، فيبدو هذا المشهد كأنه خلفية الرواية. الفتاة التي تترك كل شيء وراءها، هي صورة من زاوية أخرى لشخصية نائب القنصل الذي يعمل في كالكوتا وله ماضٍ آخر في لاهور، لا يعرف أحد لماذا قتل المجذومين هناك، ولذلك يعزله الجميع فيقع في وحدة صارخة لا يعرف إن كانوا سيعزلونه إلى بومباي أو إلى مكان آخر.


تبني دوراس روايتها من مشهدين، يشكّل الأول خلفيّة للآخر. مشهد الفتاة المتسوّلة الهاربة ومشهد آخر يشكّل المفصل الحقيقي لكل المشاهد وهو حفل الاستقبال، وفيه تلتقي ماري آن ستيتر بنائب القنصل في رقصة سوياً. تتحرك الحوارات لتستنطق نائب القنصل كي يقول شيئاً عن ماضيه، فما يزعج ماري آن ستيتر هو أن في ملف نائب القنصل عبارة «لا يطاق»، وهذا ما يجعلها تبتعد عنه. تجعلنا الروائية والسينمائية نلاحق هذا السر من دون العثور عليه، فيتحول أمام أعيننا إلى مجهول آخر يتحكّم بسير الشخصيات ويعزل نائب القنصل في وحدته. في نهاية الرواية، تظهر مجدداً الفتاة المتسولة المجنونة أمام شارل روسيت، كأنها تعود لتُرينا أن المجهول سيظهر مجدداً في الرواية كما في الحياة، بينما نائب القنصل يختار بومباي كمكان لعمله. ومع أن الكاتبة تذكر سبب عزل نائب القنصل وهو أفعاله في لاهور ووجود قتلى في حدائق شاليمار، إلا أنها تترك الغموض يلف قضيّة نائب القنصل، فلا تفصح عن سبب ما فعله وعن سرّ غياب النساء من حياته وصراخه في الليل، فنتتبع القصة بحثاً عن سر وراء حياة لا تعرف أين تذهب، تماماً كما هي قصة المتسوّلة الهاربة من الماضي. ترسم دوراس هنا جغرافيتين متناقضتين بين ثقافتي المستعمر الأوروبي والأهالي في كالكوتا. صورة الأناقة والحذاقة الدبلوماسيين ومشاهد التخلف في الهند وفلول المجذومين كأنها تريد أن تقول شيئاً عن الحياة المختلفة لهذين العالمين المتنافرين.
وكما في روايات أخرى لدوراس، هناك مراقب ما خلف المشهد لأن الروائية تثبت كاميرتها خلف المشاهد لنراها بطريقة أخرى ومن زاوية أخرى. يقول أحد الحاضرين في حفل الاستقبال «إنه يتحدث بصوت خفيض جداً، انظر كأنّه يبدو متأثراً حقّاً، ألا ترى معي ذلك؟». تعطي دوراس للأحاديث الجانبية أهمية وللكلمات التي يقولها نائب القنصل وآن ماري ستيتر وشارل روست مساحةً واسعةً ويتحول السرد إلى مشهد مسرحي، تجتمع فيه الشخصيات ويتبادل الجميع الرقصات والحوارات لينتهي بابتعاد نائب القنصل عن الجميع. والشخصية التي تراقب المشاهد هي السارد بيتر مورغن الذي يحضر في البداية والنهاية كأنه يريد أن يربط هذه المشاهد ببعضها بطريقة ما.
«لم يكن ثمة أي تسلسل بين الأحداث ذات الطبيعة الوحشية، أي لم يكن هناك أي برمجة. لم توجد أي برمجة أبداً في حياتي، لا في حياتي ولا في كتبي، ولو لمرة واحدة». هكذا تصف دوراس كتابتها في كتابها «أن تكتب»، كأنها تريد تلك العفوية أن تنساب ولذلك السرد أن يأخذ طريقه ويصل إلى نهاية عادية، ربما لم نكن نتوقعها، كما حدث أيضاً في رواية أخرى لدوراس وهي «التدمير»، الصادرة ترجمتها العام الماضي عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر»، حيث وضعت دوراس الشخصيات داخل مكان واحد هو الفندق وأمامها صورة الغابة ودفعت شخصياتها نحو المجهول.
يحضر الحبّ كأنه رحلة داخل الآخر، داخل حركاته وجنونه وكلامه وتصرفاته


تبدو النهاية غير مهمّة في «نائب القنصل». لا تركز الكاتبة على حدث مفاجئ، ولا نكترث بمصير نائب القنصل أو نظرات الحب بينه وبين ماري آن ستيتر. كأن رحلة الكتابة تصبح هي الأهم، فسواء عزل نائب القنصل إلى بومباي أو إلى مكان آخر لن يغير في القصة شيئاً. فما يثير الاهتمام هو الأسلوب الذي كُتبت فيه الرواية.
تضيف في «أن تكتب»: «الكتابة هي المجهول، فقبل أن نكتب لا نعرف شيئاً عمّا نكتب، وهذا بيقظة تامة». هذا أيضاً ما يفسّر تلك النهايات التي لا يحدث فيها شيء، كأنها كتابة تريد اكتشاف شيء آخر داخلها، ربما قدرتها على الانزياح والذهاب إلى مكان أبعد كل مرة. «نائب القنصل» التي تحولت إلى فيلم بعنوان «إنديا سونغ» عام 1975، وفيه يتصاعد صوت المتسولة المنتحبة الذي يعلو فوق قبر البطلة ماري آن ستيتر، تقترح الرواية شيئاً آخر هو الذهاب من السينما إلى الأدب كما حدث العكس أيضاً.
تركّز دوراس كاميرتها على مشهد لتجعله يكبر في كل تفاصيله، كما فعلت في «نائب القنصل»، حتى مشهد الرقصة بين ماري آن ستيتر ونائب القنصل يصبح حدثاً مفصلياً. الحوارات بينهما ومحاولة ماري في معرفة حياته وكل شيء عنه وتكتمه وصراخه... نرى هذه اللحظة وكأنها لحظة سينمائية متجمدة، فيحضر الحب كأنه رحلة داخل الآخر، داخل حركاته وجنونه وكلامه وتصرفاته. الحب مرافق لهذا المجهول. هكذا توحي صاحبة «العشيق». إنه جنون آخر يرافق الحياة والكتابة، نراه أمامنا كلّما تحركنا في الرحلة وسرنا باتجاه المستقبل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا