حلّ القطار المتّجهِ جنوباً بالمحطّةِ وربض بالرّصيفِ رقم 06 المخصّصِ لهُ على امتداد أمتار من السكّةِ الحديديّةِ فاِندفعَ ركبُ المسافرين الذين ملّوا الانتظار والوقوف نحو أبوابهِ يتزاحمون بالمناكبِ يحملون حقائبهم ويتدافعون بجنون للظفر بمقعد يُقضّون عليه سفرة مريحة ويغنمون بعض السويعات من النوم في رحلة قد تفوق الثماني ساعات على متن قطار عجوز مُتآكلٍ.
بالكاد اِستطعت الحصول على مقعد شاغر حذو النافذة ضمن عربة الدّرجة الأولى، فتهالكت بكامل ثقلي على المقعد المُبطّن الأخضرِ أتأوّه من شدّة التّعبِ، ضغطتُ بإبهام يدي اليُسرى على زرِّ تحريك الكرسي إلى الوراءِ فإذا به مُعطّلٌ عن العملِ، لعنتُ في سرّي الصّدفة التي قادتني إلى هذا المقعد من هذه العربةِ بالذّات، ثُمّ سرعان ما استسلمتُ لهذه الصّدفة ورضيتُ بهذا المقعد على مضضٍ وقد غصّت عرباتُ القطارِ على آخرها بالركّابِ وامتلأت الرفوف الحديديّة التي تعلو رؤوسهم بالحقائب والقفاف والأكياسِ، وسُرعان ما أرسل ناظر المحطّة صفرة طويلة بصفّارتهِ أُغلِقت إثرها الأبواب وتحرّك القطارُ بطيئاً وسط ضوضاء المسافرين وبكاء الأطفال وجلبة الباعة المتجوّلين يعرضون بضاعاتهم من «كاكي» و«سندويتشات» و«قوارير الماء والمشروبات الغازية» و«شاي» و«قهوة» و«هدايا تذكارية رخيصة» وبعض المنتجات الأخرى ككتيب الحصن الحصين وعلب المناديل الورقية والولاعات...
بلغ القطار بعد سويعة أو يزيدُ محطة «بئر بورقبة» حيث نزلَ هؤلاء الباعة لامتطاءِ القطار الآخر القادم من الجنوب وبيع ما تبقّى لديهم فعمّ السكون القطار واِستسلم الكثيرُ للنومِ وهدأت حركة المسافرين إلّا من طفلين يبلغُ أكبرهما حوالى الخامسة أمّا أخته فلمّا تجاوز الثالثة يذرعان ممرّ العربة جرياً مرّاتٍ و قفزاً مرّات أخرى دون أن يكُفّا عن الهتاف والصّراخ بحنجرتيهما الصغيرتينِ. وغير بعيد عنهما كان والدهما يرنو إليهما في شبه ذهول، كهل في بدايات عقده الرابع بدأ الشيبُ في التسلّل إلى فوديْه وبعض لحيته باكراً تكسو ملامحه سمرةٌ جنوبيّةٌ خفيفةٌ وقد انقبضت أساريرهُ فبدا متجهم الوجه تعلوه مسحةٌ من الكآبةِ، يحملُ بين ذراعيْهِ رضيعةً صغيرةً تصْرُخُ وتتململُ ترغبُ في مشاركة أخويها اللعبَ.
اِزدادُ الطفلان هرجاً ومرجاً وبدأ الضجرُ يتسلّلُ إلى نفوس المسافرين الذين كان معظمهم يرغبُ في الإغفاء ولو قليلاً بعد يوم من التعب والإرهاق والتردّد بين المستشفيات والإدارات والمصالح الحكوميّةِ. كان الجالسُ جنبي شاباً يعاني من أوجاع حادّة في عموده الفقري ويرغبُ في بعض الهدوء للنوم قليلاً قبل التوجّه إلى عمله صباحاً وفي الجهة الأخرى عجوز تحملُ ظرفاً كبيراً يبدو أنّهُ ملفّها الطبيّ تقولُ ابنتها التي ترافقها أنّها لم تنم منذ ليلتين بعد أن قضت الليلة السابقة في السفر نحو العاصمة وأمضت كامل اليوم بين المخابر الطبيّة وعيادات الأطبّاء، وخلفي شيخٌ يحوقل ويطلبُ الهداية لهذا الأب المهملِ. وظللنا على هذه الحال إلى أن تدخّل الرّجُل الجالسُ أمامي وتوجّه إلى الأب بحنقٍ شديد طالباً منهُ ردعَ أبنائهِ واِيقاف هذا السّرك الذي حلّ بعربة القطارِ بعد أن صار الوضع مُزعجاً لا يُطاقُ، عندئذ ردّ عليه الأب بأسفٍ وهو يواري دمعة نزلت من عينيهِ «لقد عُدنا للتوِّ من مستشفى صالح عزيّز حيثُ فارقت زوجتي الحياةِ بعد أن هزمها ذلك اللعين.. لا زالتُ تحت وقع الصّدمة أفكّرُ في أيِّ طريقة يُمكنُ أن أشرح بها لطفليَّ غياب أمّهما الدائم.. لم أشأ أن أزيد همّهما بفقدان أمّهما همًّا آخرَ...».
أمّا عن الرجل فقد احمرّ وجهه خجلاً وندماً ومادت به الأرضُ ولم يدرِ كيفَ يُكفّر عن خطئهِ وأمّا نحنُ فقد كان هذا الردُّ المزلزل خنجراً ارتكز في قلوبنا جميعاً ليلتها.

* تونس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا