«يبدو أنّ أحدهم كان يروّج الأكاذيب عن جوزف ك. الذي كان يعلم يقيناً أنه لم يقترف أيّ جرم، لكنه ذات صباح وجد نفسه قيد الاعتقال» (فرانز كافكا، المحكمة)«الجيش الإسرائيلي هو الجيش الأكثر تمسّكاً بالأخلاق في العالم» (وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان)
إذا أردنا أن نصف المناخ العام لـ «الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية؛ الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـــــ ٢٠٢٠)، هذا الكتاب الصغير الحجم والعظيم الأهمية، فلعلّه من المفيد أن نستذكر هذين الاستشهادين وأمثالهما من النصوص التي تنتمي إلى أدب التغرّب والعبث، وهو المناخ السائد في معسكرات الاعتقال في فلسطين تحت الاحتلال. إنه عالم من الغرف السوداء التي لا يجد جلّادوها أي ضرورة لتبرير أو تفسير تصرفاتهم. فمباحثاتهم وتهمهم سرية، ولا يوجد في الرأي العام من يحاسب، فقد استسلم القضاء للأمن بشكل شبه كامل حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، نساء ورجالاً وأطفالاً.


مؤلف الكتاب، عبد الرازق فرّاج، رمز بارز من رموز المعتقلين الإداريين. هو أب لابنين والمدير الإداري لـ «اتحاد لجان العمل الزراعي» وهي منظمة غير حكومية مقرّها في رام الله، ويعمل فيها منذ ثلاثين عاماً. أمضى ما مجموعه عشرة أعوام من عمره في الاعتقال الإداري أي ما يبلغ حتى الآن ٣٧٤٣ يوماً من دون أن تُوجه له أي تهمة ومن دون محاكمة. وكتابه ينبع من معاناة طويلة مع موضوعه ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، فهو لا يخرج من اعتقال حتى يقع في غيره، كما هي حاله اليوم. واللافت في أسلوبه أنّه خال تماماً من الانفعال «الداخلي»، بل هو أشبه بأسلوب الباحث الموضوعي «الخارجي» أو أسلوب الذي يقدم مرافعة هادئة رصينة أمام محكمة دولية. أمر يزيد الكابوس ظلاماً وغرابةً وكأننا بالفعل في عالم فرانز كافكا.
الكتاب في فصول خمسة مع مدخل وخلاصة موجزة. فصوله الأولى تاريخية وقانونية وفيها شرح موسّع لمفهوم الاعتقال الإداري وتاريخه في فلسطين. يسرد الكاتب في البدء ما جاء في اتفاقية جنيف الرابعة وما تفعله إسرائيل من الالتفاف حولها لتبرير سياسة الاعتقال الإداري مع تمسكها «الكفكاوي» بما تسميه «الأحكام الإنسانية» (ص ٩). وينتقل ليربط منظومة الاعتقال الإداري بقوانين الانتداب البريطاني عام ١٩٤٥ التي لم تلغها إسرائيل «إلغاءً تاماً في أي وقت من الأوقات» (ص١٣). وهذه الأنظمة تتيح الاعتقال استناداً إلى معلومات سرية لا يُسمح للمعتقل ولا لمحاميه الاطّلاع عليها، كما تجيز تجديد الاعتقال إلى ما لا نهاية. ويصل المشهد إلى أقصى العبثية حين يستشهد الكاتب بأحد غلاة الصهاينة أي مناحيم بيغين الذي وصف القوانين البريطانية لعام ١٩٤٥ بأنها قوانين «نازية» (ص ٢٠) وذلك طبعاً حين كانت تطبق على الإرهابيين اليهود فحسب.
ينتقل الكاتب ليصف تأثير تلك الاعتقالات المغلّفة بسرية تامة على المعتقلين وذويهم، فنصل إلى عالم ميثولوجي حيث يتصرف ضباط الأمن العام «كأنهم آلهة» (ص٢٤). غضب الآلهة قد يحل في أي لحظة، فهو بمثابة عقاب على رأي سياسي أو على وجهة نظر لا تعجبهم، والهدف النفسي هو خلق حالة دائمة من الخوف من المجهول، من المقصلة اللامرئية المُصْلَتة على الفلسطينيين تحت الاحتلال ومنعهم حتى من مجرد التفكير بالمقاومة، فالتفكير أمر يوازي «التخريب» في نظر قضاة إسرائيل. وفي المقابل، هناك إغراءات لمن يخضع ويتعاون كتقصير مدة الاعتقال أو الإفراج عن المعتقل، وكلها أساليب أتقنت إسرائيل استخدامها من خلال دراسة معمّقة لأنظمة الاستبداد العالمية، وفي الأخص الاحتلال النازي للدول الأوروبية.
ويبرز الكاتب لفظة «يُحتمل» ومشتقاتها، كمعلومات «محتملة» أو «احتمال» الاشتباه بكون المعتقل خطراً «محتملاً»، ما يعني أنّ «كل فلسطيني/ة عرضة لهذا الشكل من الاعتقال التعسفي» (ص٣٠).
ثمة أيضاً أساليب أخرى للتعذيب النفسي كإلغاء قرار الإفراج في آخر لحظة أو إعادة الاعتقال بعد أيام قليلة من الحرية، وهي ضرب من السادية التي نجدها في أدبيات من عاشوا تحت أنظمة استبدادية في روسيا القيصرية أو في أيرلندا تحت الاحتلال البريطاني أو في فرنسا تحت النازية. واللافت في هذا المضمار أن ينقل لنا فرّاج نماذج من أسئلة المحقق للمعتقل قبل الاعتقال مستقاة من تجربته الشخصية (ص ٣٤ و٣٥) وترمي كلها إلى تكذيب كل ما يقوله المعتقل دفاعاً عن نفسه. ليس ثمة من فلسطيني بريء ، إذ نحن هنا في عالم كارل شميت المفكر السياسي النازي الذي يصف السياسة بأنّها تتمحور حول الصديق والعدو ليس إلا.
أساليب أتقنت إسرائيل استخدامها من خلال دراسة معمّقة لأنظمة الاستبداد العالمية


والتشبّث بسرية ملف المعتقل من جانب المنظومة الأمنية يسري أيضاً على المحامين الذين يواجههم الأمنيون بحائط السرية نفسه الذي يحيطون به المعتقلين، وهؤلاء الأمنيون هم قاضي التحقيق وقاضي الاستئناف والمدعي العام والحاكم العسكري في الوقت ذاته (ص ٥١). ويسرد الكاتب قصصاً عدة تدور حول إجراءات الاعتقال لها أهمية قانونية وإنسانية ينبغي أن تصبح فصلاً لا يُنسى من فصول تاريخ وأدبيات نضال الشعب الفلسطيني. ويا ليت الكاتب أضاف إليها البعض من يومياته وتجاربه في الاعتقال كالحياة اليومية من الأكل والشرب والنوم مثلاً والتفاعل مع السجّانين ومع زملائه في المعتقل.
تدور الصفحات الأخيرة من الكتاب حول أنماط المقاومة لهذا الاعتقال العجائبي الميثولوجي الكفكاوي السادي العنصري، والاعتقال الإداري في الواقع مزيج من كل هذه العناصر. ما هي أنجع السبل للتصدي له؟ ثمة رأيان أحدهما يرى بعض الفائدة في استئناف الأحكام والبلوغ بها إلى المحكمة العليا إن أمكن، إذ وفي حالات نادرة، قد تقصّر تلك المحاكم فترة الاعتقال، فلعل وعسى يحظى المرء بفتات من الضمير الإنساني هنا وهناك في منظومة الاحتلال. يرفض صاحبنا هذا الرأي بقوة ويرى أن تُقاطع تلك المحاكم كليّاً وأن تُحرم من أي شكل من أشكال الاعتراف بشرعيتها. واللافت هنا التزام الكاتب بالموضوعية التامة في تبيان رأي مخالفيه، فهو يستعرض الرأيين وما لهما وما عليهما بإنصاف وتجرّد وبحس سياسي صقلته التجارب؛ مستنداً هنا وفي كلّ صفحات كتابه إلى أوثق المراجع التي تمثل أساساً لكل بحث مستقبلي حول الموضوع برمّته.
يهدم هذا الكتاب هيكل الرياء والتبجّح بالديمقراطية وحكم القانون، ومن داخل هذا الهيكل بالذات. وهو كتاب ينبغي أن يقرأه على الأخص كل من يهرع الآن إلى أحضان هذا الكيان الذي يشهد اليوم سيطرة أقصى اليمين العنصري في تاريخه ويحظى بمباركة أسوأ رئيس في تاريخ أميركا. هنيئاً لمن يسعى ليكون له مرقد عنزة في هذا الهيكل.

* كاتب ومؤرّخ فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا