(إلى السيّد حسن نصرالله ورجال الله)
صفحة الكون، غُبار. صمت أبدي تُخربشه حشرجة أقدام صغيرة. تنجلي الصورة. علي، ابن الثامنة، لا يأبه لساقه التي تنزف، تتدحرج الحجارة عليها، وهو يُحاول انتزاع عصا جدّه من بين الرّكام. يأخذها ويمشي. صدى ضحكات شقيّة لولد يلعب بسيّارته الجديدة. ها هي هناك بيضاء مُلطّخة بالدماء. تبقى عيناه عالقتيْن عليها، وهو يُكمل طريقه. يتعثّر بالحجارة ويقع قرب لعبة شقيقته المحروقة. ينهض مُتمسّكاً بالعصا، ويمشي مسرعاً لاهثاً، لا يستوعب كيف تتحوّل الأشياء. صوت أمه يناديه. يحاول سحب ألبوم للصور من بين الأنقاض دون جدوى. تقع إحدى الصّور. يأخذها ويذهب راكضاً إلى مكان كأنّه كهف، ما تبقّى من منزلهم المحاط والمحميّ بالأنقاض.

الجدة تصنع الخبز. يعطيها العصا. إنها كنزه. تنهض الجدّة ويداها ممدودتان له. تحضن العصا، والقلب يفطره الحزن. تُعَلّقها في مكانها الأصلي، على ما تبقّى من الحائط المشقّق، الصّامد، قرب صورة لرجل مسنّ. تُصلح من وضعيّتها وتكرج دموعها. تسأله ببحّة تخرق كل حواجز الدّنيا: وينك يا سندي؟! تلتفت إلى علي. في الحزن ابتسامة _أيضاً_ لعلي، وشكر. تعضّ على الجرح وتهزّ برأسها. تطلب منه أن يذهب لغسل يديه من "قسطل" المياه المكسور في الخارج، ويعود لمساعدتها _ لكن هناك ما يعطيه لوالدته_ صورة تجمعهما بشقيقته وشقيقه الرّضيع، اللذين ينظران إلى كل شيء بدهشة. لم يفقها أن يُقتلا بغارة إسرائيليّة على قريتهما. الكل ينظر إلى الكاميرا مبتسم. يذهب علي مُسرعاً وكأنه يهرب من حماقة ارتكبها. تزوغ عينا الأم. لا حياة لا موت. يخبرونها كيف أنقذها الدّفاع المدني من تحت الأنقاض، لكنّ الطّفلين لم يودّعاها. بقعة بيضاء تستدير على الثّوب الأسود للأم المُرضِعة. الصّدر يَدرّ الحليب. يشدّ عليها، تتوجّع، تحنّ إلى رضيعها. تكرج الدّموع من عينَي الجدّة بصمت. تجهش. تحضن زوجة ابنها وتبسمل عليها، تملّس على صدرها وكَتِفَيها، كما لو كانت ستفعل أمّها. أمّها التي أبت أن تترك الطّفلين يرحلان وحيدين، وهما بحضنها تخبئهما من القصف. لوحة من شحتار، كقلوب الغزاة.

لوحة سهى صبّاغ بعنوان أنظروا إليها تحترق

علي يأتي راكضاً، مربكاً، مُشيراً إلى الخارج، يلهث، يقول: بابا بطل يا ماما، أنا شفتو عمّ «بقوّص» عليهم ليفلّوا من أرضنا. هيدول اللي دمّرولنا البيت وكل، كل الضّيعة... كل الدّني... أرض علي هي كل الدّنيا. يتكلّم وعيناه مستديرتان مُندهشتان. تنظر السيّدتان إحداهما إلى الأخرى. طفل يستحضر والده لقلقه عليه وهو في أرض المعركة، متمسّكاً بصورته كبطل منقذ. تشدّ الجدّة من عزيمتهما، وتطلب منهما مساعدتها كي تنتهي من صناعة الخبز «قبل أن يأتي الشباب» لأخذهم. الأبناء والإخوة. هم يُقاومون بالسّلاح، وهي تصنع لهم الخبز. إنّهم من سيردّ الحقّ إلى أصحابه ويمنع الغزاة من إعادة احتلال الأرض مرّة ثانية. يُعلّق علي «بكونوا جوعانين».
حشرجة في الخارج. تتّسع عينا علي من جديد، هل يتهيّأ له؟! يسترق الجميع النظر من وراء الحائط. هل يُصدّقون ما يرون؟
إنها تلك التي يشاهدونها على شاشة التلفاز. ذئبة بثياب وزيرة للخارجيّة، من بلاد «رعاة البقر». تدير الحرب بأداة العدوّ التي تحثّه على متابعة عدوانه. هل سيطحنون هذا الرّكام المتبقّي بأصحابه بعد، ليولد الشرق "الأوسط الجديد" الذي تكلّمت عنه؟!
قصف بعيد. المشهد أمامهم يرجّ. أنياب الذّئبة تبتسم بخبث. القصف يقترب. عيناها تُحدّقان والحاجبان عابسان. ترجّ الأرض. تبرز الأسنان. أصبحت داخل شاشة التلفاز.
غارات جويّة ترعد. دخان. غبار. بيوت وبشر يتساقطون، تبتلعهم الأرض.
صمت، قبل أن تُستأنف الغارة الجديدة. هل ينتهي الكون؟!
خراب، وما تبقّى من شوارع، خالية من البشر. إنّها الضاحية الجنوبيّة للعاصمة بيروت، أمّا في ما تبقّى من مناطق، فالناس يعيشون بشكل طبيعي. مرح وسهر، لكنّ كثيرين في قلوبهم حسرة.
صدى خطوات "الذّئبة" تتنقّل على الأنقاض. رآها الشبّان الذين يتفقّدون الأمكنة، ويوصدون بعض الأبواب المخلّعة لمبانٍ، ومحالّ تجاريّة لم تَزل واقفة، أمام وادٍ كان مبانيَ شاهقة. تتعثّر بعلبة لمشروبات غازية. تنحني لتلتقطها علّها تخفّف من بعض الظّمأ. يهتف صوتُ شابٍّ من بعيد: لا تلمسي شيئاً ليس ملكاً لكِ «هيدا حرام».
ترتجف لسماعها الصّوت الحازم، وتُسرع بالمشي. تتعثّر ويعلق عقدها في حبل غسيل متدلٍّ، عُلِّقت عليه بعض الثياب ذات الألوان الزاهية، وثياب بيضاء لأطفال.
ما لبثت مصّاصة الدّماء، والتي أسماها علي «أرملة دراكولا» أن تخلّصت من أوّل تعثّرٍ، حتى تتعثّر مرّة ثانية وثالثة. يصطدم رأسها بحائط لا يزال واقفاً بين الأنقاض. «يرجّ» الرأس ويزوغ نظرها، وحين تخفّ آثار الصدمة، ترى أمامها صورة لرجل ملتح ومعمّم، يبتسم، كُتِبَ في أسفلها «سيّد المقاومة». تصرخ صرخة كادت أن تكون مدويّة لولا اختناقها داخل الحنجرة. الفم مفتوح كمغارة والصوت غارق.
تصل «أرملة دراكولا» إلى القصر الحكومي في العاصمة بيروت. يهجم أحد الصحافيين ليلتقط لها صورة تذكاريّة، وهو يصرخ متفاجئاً: أرملة دراكولا..
يشدّه الحرّاس إلى الخلف. يقترب المسؤول السياسي، ويبدو بأنه صديقها من البلد المنكوب. يُقَبّلها مسحوراً بقوّتها. هما داخل شاشة التّلفاز. التّلفاز نفسه الذي هبط من أحد المباني عند انهياره، مصحوباً بصورتهما، وقد قُصِفَ على شرفها. ألم يُخبر عن المكان، أحد جواسيسها «الأراغوزات» أيضاً؟! يتحطّم التلفاز بين الأنقاض، وشاشته تتابع الحدث على الأطلال.
الشّاشة تنقل خطاب وزيرة خارجيّة بلاد العم سام، التي تصرّ على حلفائها الذين يخوضون الحرب، بعدم التوقّف؛ ولا تزال تطمح بولادة شرق أوسط جديد.
الحجارة تتدحرج على وجه الخطيبة الواثقة المصرّة. ولا تزال الأشياء تتساقط. ستارة شفّافة زرقاء اللون، كالسّماء، تتمزّق في الهواء. هل تتمزّق السّماء؟! كرسي المقعدين، زجاجة حليب، حذاء صغير أبيض، وَرَشَّة من الصور الفوتوغرافيّة تُغْرِق الوزيرة. ألم ينكسر إصبعها المتوعّد؟ ونظيرها من البلد المنكوب، يقف دامعاً مُعجباً يُجفّف أنفه، كفتى في زاوية الصّف، ينتظر رضى المعلّمة.
ما تبقّى من صور تنزل ببطء شديد غير مستعجلة، صورة لثنائي يشدّ واحدهما على الآخر بقوّة العناق. أطفال يضحكون. دخان أسود لغارة جديدة، تمتدّ إلى جنوب البلاد لتكمل مشهدها.
شابّان بثيابهما المرقّطة يأتيان مسرعين، يحملان الخبز شاكرين، ويغيبان. ينسيان رزمة. تلحق بهما الجدّة، تنده لها الأم الشابّة، محاولة اللحاق بها، فالوضع حذر. يوقفها «علي» الذي يستيقظ مذعوراً على صوت الغارة، فتعود الأم إلى ابنها. يا لَلضياع.
الأخبار لا تتوقّف، والمذيع يتلو الخبر المدكوك بصواريخ المقاومة التي تطاول كيان عدوّهم (المحتل لفلسطين المجاورة) ردّاً على ما يتعرّض له أهالي المقاومين في جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، ويطاول بأكثر من غارة منطقة البقاع.
أحد المستوطنين في فلسطين، يبقى منبطحاً أرضاً وهو يرتجف، في وقت لم يعد يُسمع فيه أي صوت للقصف.
المذيع من خلف الشّاشة إيّاها، التي بين الأنقاض، يقول له ساخراً: قوم قوم ... خلص القصف يا... «بطل»
مناطق فارغة من سكّانها، ويبقى المنبطح. ينقل عنه المراسل في الميدان، بأنه لم يعد راغباً ببيت جميل ومستوطنات، ولم يعد راغباً بالبقاء في أرض «ترجّ رجّاً...».
يُكمل عنه المذيع الثاني وكأنهما في فاصل للسخرية والاستراحة: وصواريخ ترعد رعداً وتزلزل زلزالاً و...و...
المراسل مزايداً يكمل: وتبجّ بجّاً... يا إلهي إنها ليست أرض الميعاد، فهم قد كذبوا عليه. يُقهقه المذيعان...
الشّاشة ببيت في المدينة. أفراد العائلة يشربون الشاي ويتابعون الأحداث. يعجبون من الجنود الغزاة الجرحى، من صراخهم وبكائهم اللذين يملآن الفضاء. يسقط مهرّج العائلة أرضاً وهو يضحك بشكل هستيري، تنتقل النّظرات إليه. يقع الشاي على عنوان الجريدة «الولايات المتّحدة تمدّ إسرائيل بالقنابل الذكيّة». يفكّر علي «إذاً، لماذا يبكون كالأغبياء؟!» أحبال الطوّافات ترتجف شرايينها. تطلع وتنزل وتنقل الجنود، إلى المستشفيات. إلى المصحّات العقليّة. علي، يستأنف الأسئلة والتساؤلات. يستدير بؤبؤا عينيه في نقطة تعجّب، ونقطة استفهام. لم يعد يخاف.
الجريدة نفسها ترميها فتاة تشبه بماكياجها الوزيرة. أسنان ذئب يبحث عن طريدة لعشائه. ممثِّلَة تستبق الأحداث. تتمرّن على مسرحيّتها الهَزْلِيِّة، وعنوانها «أنا ما شفت متل غباء هالقنابل... الذكيّة». يجلس إلى جانبها رئيس الدّولة الكبرى، وهو يبتسم لكاميرا المخرج بصورة تذكاريّة. يتلبّس الممثّل الدور في حركاته البلهاء، لشخصيّة مجرمة.
تردّد الممثّلة حوارها باللغة الفصحى، بجديّة وبنبرة مغتاظة:
_ أين هو ذلك المعمّم الذي يبحث عنه كل عدوّ وعميل... وكأن عمامته للتخفّي. أين هو؟!
كان يأكل المثلّجات هو ورفاقه، في الوقت الضائع لتبديل جنود الأعداء «المجانين». يتأمّل طمأنينة جزء من الشعب، في المناطق المستثناة من الحرب، في بلاده، ويصرّ على انتزاع الطمأنينة _أيضاً_ لأهله في المناطق المنكوبة.
تضرب بيدها على الطاولة:
_ دخل التاريخ هو وصواريخه، فلا أحد يراها إلاّ وهي تنفجر...
ترفع الشعر المستعار عن رأسها وترميه أرضاً منفعلة وهي تضحك، مبتهجة بالدّور.
وجوه شاخصة أمام الشاشة. فناجين الشاي تعلو وتنخفض. الجميع يترقّب بصمت خطاب القائد، ليعرفوا مصيرهم. مشاهد للقائد نفسه من خطاب سابق، يُحذّر العدو، من أي تصرّف غبي. قام المقاومون بعمليّة أسر لجنود دخلوا أرضهم، كَمَنوا لهم، على أمل أن يصلوا إلى تبادل للأسرى الموجودين منذ سنين لدى عدوّهم. «سلّموا واستلموا».
يبدأ القائد كلمته.
توضع الأكواب على الطّاولة. صمت كامل. العيون شاخصة. صورة القائد ثابتة على الشاشة، والنّقل المباشر بالصّوت فقط. ما الذي جرى للجميع؟! يهبّون واقفين وقفة واحدة ويلتفتون إلى بعضهم. يدورون حول أنفسهم. يقول كلمة السّر ويختفي: "هذه البارجة التي أحرقت بيوتكم وقتلت أحباءَكم، انظروا إليها في عرض البحر، تحترق وتغرق... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ما هي إلا لحظات حتى يتسابق الصحافيّون والناس إلى كورنيش البحر ليلتقطوا الصّور. وجوه الجنود الإسرائيليين الموجودين على سطح البارجة، تضحك... مستغربين ساخرين ممّا سمعوه. صوت لانفجارين يرجّان المدينة. ضحكات الجنود أصبحت "تبقبق" في المياه كالضّفادع وتغرق.
المواطنون مذهولون يردّدون: الرّجل لم يكن يمزح!
نشرة الأخبار تتلوها المذيعة الجديدة بجديّة وارتباك ملحوظ: مؤتمر طارئ لقمّة القمّة القمم... الأمم ... الأمّة... من أجل إيقاف الحرب على إسرائيل... عفواً، على لبنان...
المخرج يرمق المذيعة مبتسماً بهدوء وهو يأكل لوحاً من الشوكولاتة.
حقائب على الظهر، يحملها الصحافيّون الأجانب، والكاميرات معلّقة في أعناقهم، وثيابهم "قاشطة". منهكون، العرق يبلّل ثيابهم واصلاً حتى مؤخّراتهم. يدخلون إلى مطعم صغير، ينتظرون تسلّم طلباتهم.
«معلّم الشاورما» يحضّر السندويشات. ينظر إلى أحد الصحافيين مبتسماً ومستغرباً، يسأله بالإنكليزيّة: وين عم بروح هالعرق، وعالمكم يغطّ بسُبات عميق، لا تهزّه مجازر من الصّور؟!
يتناول الصحافي طلبه ويذهب متجاهلاً سؤال الشاب.
يجلس الصّحافي الأجنبي في منزله، حاضناً وعاء الفوشار يأكل منه. يُخْفِض شاشة حاسوبه، كأنه يصفع إنساناً على رقبته بهدوء. هل الذي كان فيلماً سينمائياً وانتهى؟! يتمدّد على «الصوفة» ويشغّل جهاز التلفاز بواسطة آلة التحكّم. صور متحرّكة تقفز، ويغرق في نوم عميق.
عناوين الصحف. صوت المذياع. أجهزة التلفزيون... : لبنان ينتصر بمقاومته.
الاحتفالات تعمّ العالم العربي، والجاليات اللبنانيّة أينما كانت، تحتفل.
بدلات وربطات عنق، ممدّدة على الأسرّة هنا وهناك، تشخر في نوم كأنّه الانتحار. الرؤوس الحكوميّة والرسميّة، والفتنويّة، والجاسوسيّة... تحت الوسادة...
وعاء الفوشار مرميّ أرضاً، تفترش حبّاته المكان. جهاز التلفزيون وحيداً، يتابع مشاهد عودة النّازحين إلى بيوتهم، يحملون أعلام نصرهم، وثباتهم، ونوم بعضهم على حافة حديقة.
وجه مموّه، كشجرة وتراب، يصبح في النور خارج خندق العمليّات العسكريّة. السّماء تنظر إليه مبتسمة. يسجد على ركبتيه مقبّلاً الأرض، عشيقته.
القائد يحيي الجمهور، والجمهور إعصار... «يا أشرف الناس...».
قامات تنبت من دهاليزها منتصبةً. مقاومون قبّل قائدهم أقدامهم، وأرضٌ سقوها دماءَهم. قامات كضحكة عروس بحيائها. الفرح خافت كي لا يُخْدَش الخائبون. هل من احتفال بالنّصر في العالم، يشبه هذا الحياء؟!
القائد ينهي خطابه بثقة: إن عدتم عدنا _ إنه لبنان... إنه لبنان أيّها الأغبياء.

* لبنان