يصعب أن نقتفي أثر إبراهيم الكوني، لعله يتوارى في الصحراء، نصّاً وراء آخر. «عوليس» بدوي يكتب ترحاله برمل الأسطورة. «مهاجر ليل يعبر الظلمات» بذخيرة وجودية بلا ضفاف. روائي نسف بمهارة الأفكار الراسخة لمدنيّة الرواية، نحو أنطولوجيا الصحراء، من «التبر»، و«نزيف الحجر»، و«واو الصغرى» إلى عشرات الروايات الأخرى، في سرد موشوري لأحوال الضوء والعتمة والأسرار، وخطوط الرمل، هائماً في متاهة الصحراء الكبرى وميثيولوجيا قبائل الطوارق والأقدار التي تتحكم بمصائر البشر هناك. أطلس متفرّد في تشريح البيئة وكائناتها وألغازها بوصفها فردوساً مفقوداً ومقدّساً. هكذا تتناوب الحميمية والقسوة في تفسير هذا الكون اللانهائي المفتوح على الحكمة والتأمل والنبرة الصوفية.

في كتابه الجديد «تجديف في حقّ الجذور» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، لا يغادر إبراهيم الكوني مناخاته، لكنه هذه المرّة يقف عند تخومها في محاولة لفحص تجربته من الداخل وخصائص مغامرته السردية. أن تكتب عن الصحراء، وأنت تقيم في جبال الألب السويسرية، كأن المخزون البصري للمكان الأول لا يغادر صاحبه مهما ابتعدت المسافة. هنا يصقل العبارة بشذرات مكثّفة وتأملات فلسفية وشهادات أدبية، وحوارات معه، تعمل جميعاً على إعادة تعريف الزمن المنهوب، وأسباب هبوب الرائحة الأولى «هوسنا بكل ما هو قديم دليل على أن الزمن أيضاً يهرم: فما يستهوينا في آثار العمران، أو موسيقى الأزمنة البالية، أو أساطير الأولين هو بصمة القدامة عندما كان الزمان، بالمقارنة مع زماننا، ما زال بِكراً، يسري في وجدان الكينونة سرّاً غامضاً، موسوساً بروح وحي طفولي، ليبثّ في وجودنا العصي هذه الشحنة الشجنية المحمومة، شهادةً على حضور مبدأ غيبيّ نسميه فردوساً، قدره أن يبقى في واقعنا غنيمةً حدسية مغتربة، نروّضها في أحلامنا، ولكن هيهات أن نفلح في استعادتها كذخيرة عفوية وفتية، مشفوعة بفتنة المحال، إلا في حضرة الموت» يقول. من جهةٍ أخرى، يوضّح بأن «كل الأفكار الكبرى نتجت عن التأمل، والتأمل لا يحدث إلا بعزلة». العزلة التي فرضتها جائحة «كوفيد 19» قادت صاحب «الفزّاعة» إلى الانكباب على تدوين «يوميات سجين الوباء»، في متوالية فكرية ترصد جرائم الغزاة ضد الطبيعة، والمؤامرة البيئية في حق الصحراء وإجبارها على التنكر لهويتها السخية، و«التدخل الجراحي الدموي الذي جرّدها من ذخيرتها الطبيعية»، داعياً إلى التربية الروحية في مواجهة الأوبئة ومحنة التصحر. كما يشير إلى نزعة الترحال لدى الكائن: «ليس لسلطات العالم أن تستهجن نزعة العصيان في إنسانٍ يرفض أن يمتثل لقانون طوارئ يفرض حظر التجوال، ما لم تعترف بهويّة الجنس البشري في بعدها الطبيعي. فالإنسان إذا كان كائناً طبيعياً بالأرومة، فإنه كائنٌ حرّ بالفطرة. وأن يكون حرّاً بالسليقة يعني أنه وُلد راحلاً. أي أنه وجد نفسه في واقع يقع خارج البيت؛ خارج القمقم الذي تستبسل السلطات اليوم كي تحشره فيه؛ خارج الحظيرة التي تحاول السلطات، بسلطان القوانين الوضعيّة، أن تعيده إليها بالقوّة، متجاهلةً القوانين الطبيعية التي ما زالت تسري في شرايين هذا المخلوق، المفتون باستعمال قدميه».