جورج تراكل، المولود سنة 1887 في مدينة سالزبورغ النمساوية، هو ذاك الشّاعر الذي ظلَّ رغم الزمن العصيب الذي عاشَه وحياته الشائكة القصيرة اسماً شعريّاً لافتاً في فضاءِ الأدب المكتوب باللغة الألمانيّة منذ مطلع القرن المنصرم. يؤكِّدُ نقّاد الأدب، على مختلف توجهاتهم، على الفرادة التي امتازت بها شعريّة تراكل في مسارِ الشعرِ الألمانيّ، بوصفها لم تكتف بالاتكاء على تراث شعريّ سابق، بل أضافت إليه وتسامت به إلى مستوى أشدّ كثافةً وعمقاً. لسوءِ طالع تراكل أنَّه، إضافةً إلى أزمتِه العائليّة المتمثّلة أوّلاً بغيابِ والدتِه عنهم طوال الوقتِ ووفاةِ أبيه المبكرة ودخولِ أسرتهم البرجوازيّة مرحلةَ عوزٍ شديدٍ، عاصرَ فترةً بالغة الاضطراب في التّاريخِ الأوروبيّ بأسره، إذ كانَ ذاكَ زمن أفول إمبراطوريّات عريقةٍ وبزوغ حروب دمويّة، عديمة الرحمة. اجتماعُ الاضطرابِ الأُسريِّ بالاضطرابِ الاجتماعيّ- السياسيّ العامّ دمغَ عالمَه بسوداويّةٍ مريرةٍ كانت مستقراً ملائماً لمختلفِ تجليّات الكآبةِ والقلق وانعدام الأمان. الأذى النفسيُّ الذي ترعرعَ الشّاعرُ في كنفِه، دفعَ به دفعاً إلى حياةِ الكحولِ بكميّات مهولةٍ والمخدّراتِ بأصنافٍ شتّى وجرعات مجنونةٍ. هذه الأزمات المتعدّدةُ المستويات في حياةِ تراكل لا تني تبرزُ في نصوصِه، رافعةً رايّةً برّاقةً لا تخطئها عينٌ. فقصائدهُ المدوّنة بلغةٍ ألمعيّةٍ صعبةٍ، مليئة بأجواءٍ خاصّةٍ شكّلت، في ما بعدُ، هويّةً أدبيّةً فريدةً لا تنفك تؤثّرُ في كتاباتٍ لاحقةٍ تنهل بنهم من حقلِ تراكل اللغوي والصوريّ الشديد الثراء. في مساءِ الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، قرَّرَ جورج، البالغ آنها سبعة وعشرين عاماً، أن يهجرَ العالم بجرعة كبيرة من الكوكايين، تاركاً خلفَه قصائد لا تعرفُ عمراً ولا تُحَدّ بموت.


عندَ المستنقع
متجوِّلاً خللَ الريحِ الكاسفةِ؛
خافتاً يهمسُ القصبُ الجافُ
في صمتِ المستنقعِ.
سربُ طيورٍ بريّةٍ يعبرُ السماءَ الرماديةَ
فوق المياه الداكنة.

جلبةٌ.
داخل كوخٍ خَرِبٍ
يرفرفُ العفنُ بجناحين قاتمين؛
أشجارُ بتولا ضامرة تتنهَّدُ في الريح.

مساء في حانة مهجورة.
طريق البيتِ محاطٌ
بحزنِ القطعانِ السارحةِ الرهيفِ.
علامةُ تجلّي الليل:
بروزُ العلاجيمِ من المياه الفضيّة.

إليس
مكتملٌ سكونُ هذا النَّهارِ الذهبيِّ.
أسفلَ السندياناتِ القديمةِ
يتجلى، إليس، راقداً بعينين مدورتين.

في زرقةِ عينيكَ
تنعكسُ غفوةُ عشّاق.
فوقَ ثغركَ تصمتُ تنهُّداتُهم الورديّةُ.

في المساءِ سحبَ الصيادُ الشباكَ الثقيلةَ.
راعٍ طيبٌ يقودُ قطيعَه إلى طرفِ الغابةِ.
آهٍ! ما أعدلَ أيّامكَ يا إليس.

بهدوءٍ يهبطُ على الجدران الجرداء
السكونُ الأزرقُ لشجرةِ الزيتونِ،
ويتلاشى، بطيئاً، غناءُ العجوزِ القاتمُ.

قاربٌ ذهبيٌّ
يؤرجحُ قلبك، يا إليس،
في السماءِ الموحشة.

2

جرسٌ يُقرَعُ في صدرِ إليس بلطافةٍ - عند المساء،
فيما رأسُهُ ينغرزُ في الوسادةِ السوداء.

طريدةٌ زرقاء
تنزفُ بصمتٍ في دغلٍ شوكي.

شجرةٌ بنيةٌ تقفُ هناك، منعزلةً؛
منها ثمارُها الزرقاءُ تتساقطُ.

النجومُ والعلاماتُ تغطسُ، بهدوءٍ،
في بركةِ المساء.
خلفَ الهضبةِ قد حلَّ الشتاءُ.

حماماتٌ زرقاء
تشربُ في الليلِ العرقَ القارس
المنسابَ من جبينِ إليس البلوري.

دوماً عند جدرانِ الله القاتمةِ
دويُّ ريحٍ موحشةٍ.

في الربيع
هادئاً انهمرَ الثلجُ من الخطى القاتمةِ،
في ظلالِ الشجرةِ
يفتحُ العشّاقُ جفونَهم الورديّةَ.

دوماً يتعقَّبُ الليلُ والنّجمُ
نداءَ البحّارةِ الكالحَ؛
هادئاً ومنتظماً يُضرَبُ المجدافُ في الماء.

عمّا قريب سيزهرُ البنفسجُ عند الجدار المتهدِّمِ
ويَخْضَرُ، في سكونٍ، صدغُ الوحيدِ.

ليلاً
هذه الليلة انطفأت زرقةُ عيني،
وكذا ذهبُ قلبي الأحمر.
أواه! بأيِّ سكونٍ كان الضوءُ مشتعلاً.
معطفكَ الأزرقُ طوَّقَ الغارقَ؛
فمُكَ الأحمرُ جزمَ باختلال الصّديقِ.

طبيعة
5- مساء أيلول؛ حزينةً تدوّي نداءاتُ الرعاةِ خللَ غسقِ القريةِ؛
النارُ تُرَشُّ من الحدادةِ. بحركةٍ عنيفةٍ ينتصبُ جوادٌ أسود؛ خصالُ الخادمةِ الخزامية
تسعى نحو اتّقادِ أنفه الأرجواني. بهدوءٍ تتجمَّد صرخةُ الأيلة عند طرف الغابة، فيما صامتةً تتدلَّى ورود الخريف الصفراء على وجهِ البركةِ الأزرقِ. بلهبٍ أحمر احترقَت شجرةٌ؛ بوجوهٍ قاتمةٍ ترفرفُ الخفافيش.

في الشرق
السخطُ المشؤومُ للشعب
أشبه بالأرغنِ الوحشيِّ لعاصفة شتائيّة،
موجُ المعركةِ الأرجوانيُّ،
نجومٌ جرداء.

بحواحب مكسورةٍ وأذرعٍ فضيّة
يلوّحُ الليلُ للجنودِ المُحتَضرين.
في ظلالِ شجرةِ الدردارِ الخريفيّة
تتنهَّدُ أرواحُ المُهلَكين.

بريَّةٌ شوكيّةٌ تلتفُّ كحزامٍ حول المدينة.
على الأدراجِ الداميةِ يطاردُ القمرُ
النسوةَ الفزعات.
ذئابٌ وحشيّةٌ ولجت البوابةَ.