ياسين رفاعية: الحزن في كل مكان

  • 0
  • ض
  • ض

عندما نشرت قصة «الحزن في كل مكان» في مجلة «الآداب»، على ما أذكر، أواخر عام 1959، علّق عليها المغفور له صدقي اسماعيل في باب «قرأت العدد الماضي» بأنها من اكثر القصص التي أثرت به وانها من افضل ما قرأ في قصص ذلك العدد من «الآداب». بعد فترة، التقيت بصدقي اسماعيل، ولم أكن اعرفه من قبل، فعانقني وشدد على أنّ «الحزن في كل مكان» من أجمل ما قرأ من قصص ذلك الوقت. التقينا في مكتب الشاعر مدحت عكاش ناشر مجلة «الثقافة» ومدير «دار الثقافة للنشر»، فقال لمدحت: هل قرأت قصة ياسين «الحزن في كل مكان»؟ أجاب الرجل: لا... قال اعتقد من الضروري أن تنشر لياسين مجموعة قصص، فرحّب الرجل، وسألني إن كانت عندي قصص تصلح لإصدارها في كتاب، قلت: لدي بعض القصص المنشورة وغير المنشورة. فقال: هاتها... أريدها على أبعد تقدير خلال اسبوع. لم اصدق كيف سنحت لي هذه الفرصة من غير توقع، لأنني حتى تلك اللحظة لم يخطر في بالي أن أنشر كتاباً، وأنا في الخامسة والعشرين من العمر. قلت في نفسي «بعد بكير». جمعت القصص على عجل وبلغ عددها 12 قصة واتيت بها إلى مدحت عكاش. بعدما قرأها، أعجب بها وقالي لي إنّه يفكر في إصدار سلسلة قصصية بحجم «كتاب الجيب» وسيكون كتابك يحمل الرقم «1» في هذه السلسلة. لم يتح لي مراجعة القصص، وتركت ذلك لذوق الشاعر مدحت. كانت أيامنا ايام الوحدة السورية المصرية، وقيام الجمهورية العربية المتحدة، حيث جاء كل من الناقد رجاء النقاش ليعمل في جريدة «الجماهير» والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ليعمل في جريدة «الوحدة» وهما جريدتان قامتا مع قيام تلك الوحدة.

درتُ على جميع مكتبات دمشق، أتباسط مع أصحابها علهم يضعون لي نسخة من كتابي في واجهاتهم الزجاجية
وكانت مناسبة لأتعرف إلى الرجلين وفي مكتب مدحت عكاش تحديداً، فطلب الشاعر مدحت من رجاء النقاش أن يقدم لـ «الحزن في كل مكان» فكتب ما يشبه الدراسة بلغت صفحاتها العشرين، وأشار فيها إلى أنّها تجربة طازجة لكاتب يخطو خطواته الأولى ومن قوله في هذه الدراسة: "والى جانب الروح الشعرية الشائعة، فإن المجموعة تحوي لقطات من الحياة تستحق الانتباه، ولا بد من القول هنا إنّ صاحب هذه المجموعة كان عاملاً وهذا الموقف يزيدنا تقديراً واهتماماً بشأنه، فقليل من هؤلاء الذين خرجوا في وطننا العربي من بيئة العمال، فأمسكوا بالقلم لكي ينقلوا لنا خفايا هذه الحياة الشاقة التي يحياها العامل العربي في ظروف مرهقة مشحونة بالتجارب (...) ومن قلب هذا الموقف العملي، يلتقط الكاتب كثيراً من اللوحات الاجتماعية الناجحة. وهو الى جانب هذا، يحاول أن يرفع مستوى مشاعر العامل من أن تكون مسفوحة على التراب بدون معنى، إلى مستوى انساني عام لينطلق من الأشياء الجزئية إلى التفكير في الأشياء الإنسانية". ويحلل رجاء النقاش بعد ذلك قصص المجموعة قصة قصة، وصدرت تحت عنوان «الحزن في كل مكان» ومما كتبه الشاعر الراحل خليل الخوري على غلافها الأخير: «ياسين رفاعية من شباب هذا الجيل، جيل القلق والمأساة، يحمل في نفسه كل خصائصه وكل تناقضاته، قلق، حزين، باحث أبداً عن القيّم في عصر أكثر الأشياء فيه تبدلاً هي القيم. وحياة ياسين رفاعية شاقة، فقد تقلّب في اعمال شتى، بدأ عامل معمل، فموظفاً في شركة للنسيج فموظفاً في امانة العاصمة، فعاملاً في مخبز، فصحافياً ولعل في كتاباته اثراً بارزاً مما خاض من معارك معاشية خاسرة». صدر الكتاب، وعندما تسلمت النسخة الاولى منه، شعرت ببهجة قوية لم أعرف مثلها من قبل. صرت أتلمس الغلاف كأنني اتلّمس خديّ حسناء فائقة الجمال، كنتُ مسحوراً إلى حد كبير غير مصدق أنّ بين يدي غلاف كتاب أنا مؤلفه، وصرت أدور في الشوارع وأنا حامل للنسخة الأولى كأنني أقول للناس: ها أنا ياسين رفاعية الكاتب. بل اسرعت واشتريت علبة سجائر واشعلت لفافة وصرت أرسل دخانها حلقات حلقات واسعل بعد ذلك لأنني لم اعتد التدخين، اردت أن أقلد كبار الكتاب في ذلك الوقت، الذين تعد السيجارة عندهم من مظاهر الكاتب الكبير. ومباشرة، ذهبت الى مقهى «الهافانا» في دمشق، مقهى الادباء والشعراء وجلست إلى طاولة تطل على الشارع مباشرة... ووضعت الكتاب على الطاولة لعل المارين يلمحونه ويلمحون هذا الشاب البسيط الذي أصبح كاتباً بين عشية وضحاها. وأول إنسان ألقى نظره إلى المجموعة كان السيد سليم، خادم المقهى الذي نطلب منه الشاي والقهوة، فسّر لي وقدم لي كأس الشاي مجاناً من دون أن يتقاضى ثمن المشروب. كنت سعيداً، وانزاحت عن صدري هموم لا يقدر على حملها جبل، كأنني أصبحت طائراً، ليس بجناحين فقط، بل بعدة أجنحة قادراً على الطيران إلى أعلى افق. في المرحلة الثالثة، درتُ على جميع مكتبات دمشق، التي كانت ملأى بالمكتبات أعرّف أصحابها إلى «شخصي الكريم» الكاتب وصاحب مجموعة «الحزن في كل مكان» وأتباسط معهم علهم يضعون لي نسخة من كتابي في واجهاتهم الزجاجية المطلة على الطريق. كانوا يحققون لي هذه الرغبة بلا تلكؤ، فأقوم بجولة صباحية على هذه المكتبات، التي كان عددها في ذلك الوقت يفوق العشرين، وأنا أتأمل كتابي المتربع بين الكتب الأخرى، كأنه وحده زينة هذه الواجهات بلا منازع. ومع الوقت، صرت أداوم في مقهى «الهافانا» لأتعرف إلى كبار كتاب ذلك الوقت، ثم أصبح لي موقع بينهم وقبلوا بي كاتباً نّداً بين صفوفهم. وبعد الخروج من هذه المعمعة، عدت الى طبيعتي وتخليت عن الغرور الذي ركبني في فترة صدور المجموعة، لأُثقف نفسي، وانصرف الى الكتابة عن جدّ من مجموعة الى أخرى، ومن راوية الى رواية، حتى صار الناس يشيرون إليّ بالبنان: هذا هو الكاتب ياسين رفاعية.

0 تعليق

التعليقات