وُلد فيليپ جاكوتي في ٣٠ حزيران (يونيو) ١٩٢٥، في مدينة مودون، وهو كاتب وشاعر ومترجم سويسري فرانكوفوني، ترجم هوميروس وهولدرلن وموزيل وريلكه وغيرهم. بدأت رحلته الأدبية مع الترجمة، وسرعان ما تبعتها تجربة شعرية، والأصح مشروع شعري لم يقطع مع البدايات، بل يمكن الحديث بكل ثقة عن تقاطع وتأثير متبادل دائمَين بين التجربتين.

تحتاج الإحاطة بشعرية جاكوتي إلى بحوث طويلة، لكنها في المجمل تتلخّص في البحث الدائم عن توازن ما بين قيود الكتابة الشعرية التقليدية والتحرر منها، والتركيز على قيمتَي النفَس والإيقاع، والاقتصاد في القول، والابتعاد عن سلطة الصورة، والاستمرارية النصية والانقطاع، والبعد القِيَمي لطبيعة الخيارات والثيمات. يقول جاكوتي: «النفَس يدفع، يصعد، يزدهي، يتلاشى؛ ينعشنا ثم يفرّ هارباً؛ نحاول الإمساك به من دون أن نخنقه». ثم يضيف: «لذلك، نخترع لغةً تجمع بين الصرامة والغموض، حيث لا يمنع الإيقاع استمرارية الحركة، لكنه يظهرها، ولا يدعها تضيع بالكامل». يضعنا هذا الاقتباس في صميم شعرية جاكوتي، أي البحث الدائم عن نقاط التوازن بين المتناقضات. في شعر جاكوتي، القليل هو القاعدة التي ترتكز إليها الكلمة. الكلمة تشير إلى الصمت وتنزع إليه، لتستقبل الصدى الذي لا يتردّد إلّا على تخوم اللغة. تكاد الصورة الشعرية تكون غائبة تماماً لدى جاكوتي، فهو يَحْذَرُها كثيراً. يقول: «كل يوم، يخترع الأطفال صوراً شعرية، وقد أغرق السورياليون الشعر الحديث بالصور، وإذا انزلقنا إلى هذا المنحدر، فإن ذلك يُنتج فورةً من العلاقات الغريبة التي تُصوّر لنا أننا اكتشفنا البنى السرية التي يقوم عليها العالم، بينما لم نفعل سوى استخلاص التأثيرات القصوى لنقص الدقة والتشويش في التعبير». يتشظى نص جاكوتي شعرياً، ويتشذّر، تأتي جمالياته على شكل حطام، أو تفتُّت حتى، لكنه يحافظ على استمراريته ووحدته في التأمل عبر الحفر في أرض من التساؤلات والشك وعدم اليقين. يقول: «الجمال: بذرة في مهب الريح، والعواصف، لا تُحدث أدنى ضجيج، تائهة غالباً، ودائماً مدمّرة، لكنها مصادفَةً تصرُّ على الإزهار».
أخيراً، قِيَمِيَّة الخيارات: جاكوتي شاعر يفحص، يشك، يتساءل، ويبحث عن صوت صحيح صادق، فهو يرفض الخداع، بالنسبة إليه، ليس الشعر زخرفة ولا بذخاً ولا كذباً، ولا لعباً، بل هو الفن الذي يجعل أبسط كلمة ترتعش

ترجمة وتقديم أسامة سعد

1. الاعتراف في الظلام
حركات وأشغال النهار تخُفي
النهار.
فليقترب هذا الليل وليكشف إذن عن وجوهنا.
ربما دُفع بابٌ في هذه الجوار، مدىً فسيحٌ مُهدىً لسُكنانا.
تكلّمْ، الآن، أيها الحب.
تكلّمْ، أنت الذي ما عاد يتكلّم
منذ سنين من الغفلة أو الوقاحة.
اقترضْ من الظلمة الخفيفة صبرَها وقُلْ، كمثل نفَسٍ بين أشجار الحور:
«لقد مُنحتُ في هذا المكان رقّةً مضطرمةً متّقدة، لن يفصلني عنها أحد ما لم ينتزع يدي، ليس لديّ من دليل آخر يرشدني على هذه الدرب، نضارتُها ونارها تتناوبان التألُّق على شجيرات الأسيجة...»
ولكن فليبقَ ما يجمعنا خفياً، أيها الحب: إن ظلمة الليل الأشدّ هي الضوء، منبع إيماءاتنا العنيدة عصيٌّ على الوصف، وأسفل أسفل الأرض تحلّق حيواتنا المظلمة.
فقط قُلْ مرّة أخرى:
«أيها الشمع المحترق تحت شموع أخرى
قُدني، أتوسّل إليك، نحو هذا الزجاج الذي يلوح في الأفق، ادفعْ معي هذا الجدار الخفيف القاطع كنصل، انظرْ كيف نمضي دون مشقةٍ في إمبراطورية الظلام...»
ثم بعد ذلك، بُحْ لجارة الليل بحَرِّ امتنانك.

2. قمرُ فجرٍ صيفيّ
في الهواء الذي يشتدُّ نقاوةً ما زالت تتلألأ هذه الدمعةُ أو الشعلةُ الواهيةُ في الزجاج بينما من نوم الجبال تصعد غشاوةٌ مذهّبةٌ
منزلٌ معلّقٌ هكذا على ميزان الفجر بين الجمرة الموعودة وهذه اللؤلؤة الضائعة.

3. فجر
يخيّل إليّ أن إلهاً يستيقظ، ينظر إلى بيوت الخضرة والنوافير
إلى نداه على وشوشاتنا، على عرَقنا
يؤلمني أن أتخلّى عن الصور
يجب أن يخترقني المحراثُ، يخترق مرآة الشتاء، العُمرَ
يجب أن يبذرني الزمن.

4. جرحٌ مرئيٌّ من بعيد
آه! العالم أجمل مما يلزم لهذا الدم سيئ التغليف، الذي دائماً ما يبحث في الإنسان عن اللحظة التي يفرّ فيها هارباً!
ذاك الذي يتألّم، تحرقه نظرته ويقول لا، لم يعد يعشق حركات الضوء، يلتصق بالأرض، لم يعد يعرف اسمه، فمه الذي يقول لا ينغرز بفظاعة في التراب.
قد تجمّعت فيّ دروب الشفافية، سوف نتذكّر طويلاً خلواتنا السرية، ولكن يحدث أيضاً أن يكون الميزان مشبوهاً، وعندما يميل بي، ألمحُ الأرض ملطخةً بالدماء.
ثمة ذهب كثير، هواء كثير في هذا الوروار للذي ينحني عليه مرتدياً ملابس من ورقٍ رديء.

5. الشتاء
رغم أني عرفتُ كيف أمنح كلماتي أجنحةً، كنتُ أراها تدور برّاقة في الهواء، كانت تقودني نحو الفضاء المشعّ...
أأكونُ إذن حبيس كانون الجليديّ كمثل عجوز ذاهل بلا صوت، خلف النافذة، تزداد ظلاماً من ساعة إلى ساعة، يتوه في ذاكرته، وإذا ابتسم فلأنه يعبر شارعاً مشرقاً، لأنه يلتقي شبحاً مغلق العينين، الآن ومنذ سنين بارداً كبرد كانون...
هذه المرأة التي تحترق هناك بعيداً جداً، إذا سكتُّ، من سيقول لها أن تضيء بعد، ألّا تغور مع النيران الأخرى حيث تُكوّم العظام في الغابات؟
من يفتح لي في هذه الظلمات درب الندى؟
لكنّها الآن، وقد مسّها النداء الأوهن، تُحَسُّ في العشب الساعةُ التي تسبق النهار.

6. على خطى القمر
إذ كنت أنحني على النافذة هذه الليلة،
رأيتُ العالم وقد صار خفيفاً
وما عاد فيه من عقبات.
كلّ ما يُبقينا في النهار
بدا وكأنّ عليه أن يحملني الآن من فتحةٍ إلى أخرى
داخل مسكَنٍ من ماء، نحو شيءٍ ما
مفرط في الوهن، ولامع كالعشب:
كنتُ أهمُّ بالدخول في العشب دونما رهبة،
كنتُ على وشك شكر برودة الأرض،
على خطى القمر، قلتُ نعم ومضيتُ..

7. مسكَن
منذ زمنٍ بعيدٍ أسعى إلى العيش هنا،
في هذه الغرفة التي أدّعي أنّي أُحبّها،
الطاولة، والأشياء خِلْوَةُ البال،
والنافذة التي كلما انقضى ليلٌ
تفتحُ خضرات جديدة،
قلب الشحرور الذي يخفق في اللبلابة الداكنة،
والأشعة الأولى في كل مكان
تجهزُ على الظلمة المحتضرة.
أنا أيضاً، أقبَلُ بالاعتقاد أن الطقس عذبٌ
وأنّي في البيت،
وأنّ نهاري سيكون طيباً.
فقط، هناك تلك العنكبوت
عند قائمة السرير،
لم أسحقها بما فيه الكفاية،
ويخيَّلُ إليَّ
أنها ما زالت تنسج الفخَّ
الذي ينتظر شبحي الهشّ.

8. كلمات في الهواء (سدى)
قال الهواء شديد النقاء:
«كنتُ بيتكَ ردحاً من الزمن،
ولكن، سيأتي مسافرون آخرون، وسيحتلون مكانك،
وأنت الذي طالما أحببتَ الإقامة ها هنا،
أين ستذهب؟
أرى غباراً على هذه الأرض، أراه جيداً،
لكنّك كنت تنظر إليّ، وكانت عيناك مألوفتَين؛ وكنتَ أحياناً
تغنّي، أهذا كل شيءٍ إذن؟
حتى أنك كنت تتحدث إلى شخص ناعسٍ معظم الوقت،
كنت تقول له، لو لم يكن لضوء الأرض معنىً لم ينتبه له الموتُ،
لما كان بهذا النقاء،
كنت ترى نفسك تتقدّم في هذا الاتجاه،
مع ذلك، لم أعُد أسمعك: ماذا فعلتَ؟
ماذا ستقول شريكةُ حياتك؟»

تجيبُ عبر دموعها السعيدة:
«لقد تحوَّلَ إلى هذا الظل الذي كان يروق له كثيراً»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا