يرسم ممدوح عزام خريطة الجنوب السوري بالبوصة لا الأمتار، ليضيء عتمة بيئة مهملة بعدسة مقرّبة. وإذا بالمشهد المألوف يكتنز سحراً خفياً، وجاذبية لا تقاوم في زعزعة طمأنينة المكان. في روايته الجديدة «لا تخبر الحصان» (دار ممدوح عدوان) يرصد سيرة الدركي سالم النجار الذي يصل إلى قريته «دير القرن» بعد انتهاء خدمته في خيّالة الدرك برفقة حصانه الذي كان رمزاً لأمجاده في مطاردة المهرّبين وقطاع الطرق والمجرمين. في غيابه، تكفّلت زوجته سليمة حطاب في ترميم محنة العيش، وإذا بالمسافة تتسع بينهما لجهة الألفة، إذ ينتصر الأسى على الأشواق، فقد كانت تنتظر هدية مؤجلة منذ عشرين عاماً لا حصاناً يشارك العائلة خيباتها. ستتقاسم الأم وأولادها رواية السيرة، من دون أن تُتاح للأب حصة في الكلام، عدا ما سيرويه في المضافة عن ذكرياته الآفلة في الدرك، والتي ستنطفئ بانفضاض الضيوف عنه.

ستنفر سليمة من الحصان، وكذلك أولادها، عدا كامل، لكن الأب سيعتني بالحصان أكثر من اعتنائه بأولاده. كما ستنمو ظنون سليمة بوجود امرأة أخرى في حياة زوجها نظراً لغيابه الطويل بعد انتهاء خدمته. يلجأ صاحب «قصر المطر» إلى تقنية تعدد الأصوات، فيتعاقب الأولاد على رسم تضاريس السرد وما آلت إليه مصائرهم المتباينة في جغرافيا محدودة (دير القرن- السويداء) لتتكشف طقوس المكان بعامية تلقّح مفاصل السرد بما ينقصها من دقة الوصف وبلاغة المعنى. يحكي الأبناء عن الأب كما لو أنه رجل غريب عنهم، فيرد باسمه لا بصفته كأب، كما ستنمو البغضاء نحو الحصان الذي أضاف عبئاً ثقيلاً على العائلة. لكن الأب لن يتوقّف عن استعراضاته اليومية بصحبة حصانه، محاولاً إعادة الزمن البهي إلى الوراء من دون جدوى، كما لو أننا إزاء صورة موازية تتقاطع مع رواية جنكيز ايتماتوف «وداعاً غولساري» عن حصان رهوان ينتهي بالعجز. وستحضر في الذهن معاناة الحوذي «إيونا» الذي يضطر إلى مخاطبة حصانه عندما لا يلتفت إلى حكاياته ركّاب العربة في قصة أنطون تشيخوف «لمن أشكو كآبتي». لكن حصان سالم النجّار سيبقى صورة أصلية عن بيئته والتحولات التي طرأت على المكان، والأحاسيس المبهمة التي نلمحها في انفعالات الحصان أثناء تعذيبه سرّاً من بعض أفراد العائلة.
نساء متروكات في مجتمع ذكوري فظ وعنيف


يتوغل ممدوح عزام تدريجاً في هتك أسرار العائلة، فرداً فرداً، مزيحاً الغلالة الشفيفة عما يمور في دواخل الشخصيات، خصوصاً صورة الأم في مكابداتها الصامتة، وهي ترى انهيار مملكتها ببطء، مانحاً إياها بعداً تراجيدياً استثنائياً: «أحسُّ أنني أسير في أرض مستباحة. فراغ يملكه جمع القادرين المتمكنين الذين يستطيعون طردنا في أيّ وقت. سالم الذي فضّل حصانه عليّ، ثم بنى علاقة مع امرأة غيري حيث كان يخدم، ونمر الذي ينافسه في الاعتداء على وجودنا، فيسرق ابنته من إرادتها. أحس أننا-نحن النساء-وحيدات تماماً، وأن هذه الأرض ليست لنا». سليمة نفسها ستعاقب سالم النجّار برفضها النوم معه وارتداء ما يشبه حزام العفة لمنعه من مباغتة فراشها عنوةً. ستحضر خرائط الجسد بتنويعات مدهشة، وكيفية تفتّح بذرة الحب واندفاعات الغريزة لدى كل فرد في العائلة. بانعطافة مباغتة، يوسّع صاحب «أرواح صخرات العسل» الدائرة التي تحيط شخصياته نحو العاصمة بإشارات خاطفة عن انقلاب عسكري ما، أو حرب تدور في الجوار، كخلفية لوقائع التاريخ المضطرب للبلاد التي انعكست مراياه على هذه الجغرافيا الصغيرة المهملة، مثلما حدث للعمة نجاة التي ستخطف الحرب الرجل الذي قرّرت أن تتزوجه بعد وحدة وعطش طويل وانتظارات لا نهائية، بالإضافة إلى حمّى العنف العشائري التي كانت ستطال الابن فاضل إثر علاقته بأنوار عمران، ومكابدات ابنة العم لميا إثر تزويجها قسراً.
ههنا يذكّرنا ممدوح عزّام مجدداً بقدرته على اجتراح العاطفة الأنثوية من عمق الألم، منتصراً لنساء متروكات في مجتمع ذكوري فظ وعنيف. يقول نوفل بعدما اكتشف الطحّان علاقته مع ابنته يمنى «كانت محابر الدم الزرقاء، تبقّع جسدها في الأماكن التي استطعت أن أراها: أسفل العنق، وبطّة الساق، والذراعين. ذُعرت من هذا الفجور المدمّر لراضي الصالح، وبدا أبي، سالم النجّار، مجرد صورة سلبية محفوفة بالممحاة عنه. سالم النجار بريد يحمل العنف، بينما راضي هو الرسالة ذاتها».
عتبة أخرى في رفع وتيرة المواجهة بين ديكتاتورية الأب الذي بقي دركياً بسوط، وأصوات الأبناء المتناوبة في نسج حزمة الحكي على هيئة جديلة مضادة، كأن الحكي هنا ينطوي على ديمقراطية مخذولة في الواقع ومشتهاة في السرد، تعويضاً عن خسائر لا تحصى. هكذا تتصاعد وتيرة الحكي بوصفها مرثية للأفول من جهة، وتطلّع نحو أفقٍ آخر، من جهةٍ ثانية، فلا مناص من تأويل الحكاية نحو ما يقابلها من وقائع راهنة في البلاد. ذلك أن الأمس يحيا في شرايين اليوم بجرعات دامغة، وليس مجرد صور في ألبوم العائلة، أو لغزاً عن ابن مجهول من امرأة بعيدة أتى لاجئاً بصحبة الاب. أحوال الاحتضار تتراكم في مرآة الصمت، وسوف تصيب الجميع بطعنات متفاوتة. سيضطر الأب إلى بيع الحصان وترويضه كي يجرّ العربة، بعدما فتك به ضيق العيش، غير أن هذه الأصفاد التي كبّلته ستتفكك عنوةً، ففيما كان سالم النجار يحتضر في فراشه، صاح ابنه كامل بالحصان «اهرب يا صبح». سيفهم الحصان النداء، ويرفس العربة: «صار الآن حرّاً. حرّاً كما لو كان موجوداً في البريّة منذ الأزل». وفقاً للعنوان وإحالته إلى قصيدة محمود درويش، فإن الحصان «يؤنس البيت يا ولدي»، أما زمن الدرك فإلى أفول.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا