يعارك الواقع التاريخي للمجتمعات المفارقة، أحادية النظرية، فعندما يواجِه الفكر تعقّد الواقع، على الفكر أن ينشَط ويتعقّد ويتعدّد، ليقبض ولو جزئياً على الواقِع، وإلا ارتخَت ثورية الفكر في بلادة، منها يخلق وهمَ الواقِع البسيط غير المركّب. لا يسلم الفكر الماركسي السياسي من هذا العراك، بين بساطة الفكر وتعقّد الواقع، خاصّةً في مجتمعاتنا التابعة، حيث حوّر الاستعمار مسار تطورها التاريخي، وأدخله في تبعية بنيوية سياسية واقتصادية لمركزه الإمبريالي. نتَجت عن هذه التبعية ولادتنا المزيفة في التاريخ كدولة طائفية ذات نمط إنتاج رأسمالي تبعي، ما يكشف هوّة في التطابق بين واقع الصراع الطبقي لهذه المجتمعات، وبين الفهم الماركسي الكلاسيكي لهذا الصراع.

لقد عَمِلَ مهدي عامل (1936 ــــ 1987) على ردمِ تلك الهوّة، عبر إنتاج أدوات معرفية جديدة في الفكر الماركسي، معتبراً أن تميّز هذا الفكر شرط من شروط كونيته. عبر ما عرّفه بالماركسية المتميّزة، قدّم لنا تحليلاً نظرياً لطبيعة التناقضات بين الممارسات التي تعمل في حقول الصراع الطبقي: اقتصادياً/ سياسياً/ أيدويولوجياً. وأيّ محاولة لفهم البنية الاجتماعية اللبنانية وصيرورتها التاريخية، بدون الرجوع ولو جزئياً إلى ذلك التحليل النظري، ستقع بدورها في ضبايبة تلك الهوّة، وفيها سيتخبّط المسار الثوري للممارسة السياسية.
لقد اتُّهِمَ مهدي عامل من قِبل العديد من رفاقه المفكّرين بالتطرف النظري للسياسة (1)، وقد كانوا محقّين بهذا الاتّهام، بقدر ما كان مهدي محقّاً بممارسة ذلك التطرف. منذ كتاباته الأولى، أدرك أن الحركة المحورية للصراع الطبقي في البنيات التابعة، تدور حول السياسة، وأن نبذ السياسيّ، أو جذب السياسيّ لهذا الصراع، هو الذي يحدّد إمكانية الثورة الاجتماعية. كما أنّه حدّد أن التناقض المسيطر في هذه المجتمعات بين التحالف الطبقي الحاكِم والتحالف الطبقي النقيض هو تناقض سياسي، وأن أرضية هذا التناقض هو التناقض الاقتصادي (2) الذي يمثّل التناقض الأساسي بين هذين التحالفين. كما أنّه وصّف طبيعة الأزمات الدورية التي يعيشها النظام السياسي اللبناني؛ بين أزمة الهيمنة وأزمة السيطرة. أزمة السيطرة تترجم بتهديد السيطرة السياسية للتحالف الطبقي المسيطر على التحالف الطبقي النقيض. أمّا أزمة الهيمنة، فتترجَم بتفاقم التناقضات الثانوية داخل التحالف الطبقي المسيطر، تلك التناقضات الثانوية التي يكون لمن يحسمها من التحالف الطبقي المسيطر، نصيب قيادة هذا التحالف عبر الهيمنة الطائفية.
ولا يخفى على أحد أن التحالف الطبقي المسيطر في لبنان واقع في أزمة هيمنة منذ 2005، إلّا أنه لم يقع في أزمة سيطرة طبقية إلا منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وهذا يغيّر كل شيء. فمصير أزمة السيطرة تلك، هو مصير انتفاضة 17 أكتوبر، أو بالأحرى؛ إمّا أن تتحول انتفاضة 17 أكتوبر إلى ثورة ذات مشروع سياسي بقيادة الطبقات المستغلّة، وإمّا أن تنتهي أزمة السيطرة، بتهافت الخطاب السياسي للانتفاضة، وبالتفاف الأحزاب الطائفية من جديد على عموم الطبقات المُستغَّلّة من القاعدة الجماهيرية، إن بالاستتباع الأيديولوجي أو الاقتصادي.
انطلاقاً من ضرورة تثوير الممارسة السياسية للصراع الطبقي في انتفاضة 17 أكتوبر، وانتقالها من مراحل الدفاع إلى مراحل الهجوم، والتخطيط لكيفية منع إعادة ارتباط الجماهير بالأحزاب الطائفية وفك ارتباط من منهم ما زال مستتبعاً، وُجِبَ القيام بتحليل راهِن لعلاقة السيطرة السياسية بين طبقيتها وطائفيتها. لقد سبق أن قطع مهدي عامل شوطاً كبيراً في هذا التحليل على امتداد صفحات كتابه «في الدولة الطائفية» الذي نعتمد فصله السابع بعنوان «النظام السياسي بين الإصلاح الطائفي وضرورة التغيير الديمقراطي»، كقاعدة نظرية لهذه المقالة، لكننا لا ندّعِ عدم تجاوز بعض الأساسات المفهومية لتلك القاعدة، خاصّةً بعد التحولات السياسية التي أصابت مجتمعنا في بحر الـ35 سنة التي مرّت على نشر ذلك الكتاب.

الطائفية بمفهومها البورجوازي
يحدّد لنا مهدي منذ مطلع الفصل السابع، الفرق بين تعريف الطائفية في مفهومها البورجوازي وبين تعريف الطائفية في مفهومها النقيض، فيعتبر أن الطائفية في المفهوم البورجوازي هي «نظام حكم الطوائف، والحكم هذا مشاركة بينها في توازن دقيق تقوم به الدولة، وبه تدوم. فإذا اختلّ، تفكّكت الدولة - أو تهدّدها التفكّك - فتعطّل دورها في إدارة مصالح الطوائف، وتأمين ديمومة حكمها. إذذاك، يدخل المجتمع في أزمة تشخّصها البورجوازية بحسب مفهومها ذاك، كأزمة تعايش بين الطوائف: فإما العودة إلى التوازن في الحكم وإما استقلال لكل طائفة بحكمها الذاتي، في إطار خارجي من التعدد الطائفي (...)»(3).
أمّا الطائفية في مفهومها النقيض، فهي «الشكل التاريخي المحدّد للنظام السياسي الذي تمارس فيه البورجوازية اللبنانية سيطرتها الطبقية» (4). وقد ساعدنا التعريف النقيض الذي قدّمه مهدي عامل للطائفية في فهم الوهم الأيديولوجي الذي وقع وما زال يقع فيه كل المفكرين الذين يستهدفون العلمانية (5) من دون استهداف نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي.
وفي السؤال عمّا كانت العلاقة القائمة بين النظام السياسي لسيطرة البورجوازية اللبنانية والشكل الطائفي لهذا النظام، مجرد علاقة تلاؤم تاريخي، أم أنها، أكثر من ذلك علاقة تلازم بنيوي، يذهب مهدي للحسم: «نميل من جهتنا إلى تأكيد أن العلاقة تلك هي علاقة تلازم بنيوي. (...) الشروط التاريخية التي تكونت فيها دولة البورجوازية اللبنانية كدولة طائفية، هي نفسها شروط تكون الرأسمالية في لبنان في طور أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي. وهي، بالتالي، الشروط نفسها التي حالت دون تكوّن البورجوازية اللبنانية كطبقة ثورية، على نموذج البورجوازية الأوروبية، مثلاً، في طور صعود الرأسمالية. لهذه الأسباب وغيرها أيضاً، كان الشكل الطائفي للدولة اللبنانية أساسياً لوجودها كدولة بورجوازية، من حيث هو الشكل الضروري الذي تقوم فيه الدولة بوظيفتها الطبقية في حماية مصالح الطبقة المسيطرة، عبر تأمينها التحقّق الآلي لإعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة، في إطار علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية، وبإعادة إنتاج علاقة التبعية هذه. ولئن سأل سائل: لماذا الشكل الطائفي لهذه الدولة هو أساسي لوجودها كدولة بورجوازية؟ فالجواب هو باختصار، أن هذا الشكل يسمح للبورجوازية بالتحكّم بمجرى الصراع الطبقي، بإبقاء الطبقات الكادحة فيه، أسيرة علاقة من التبعية الطبقية بها هي، بالتحديد علاقة تمثيل طائفي تربط الطبقات هذه بممثليها الطائفيين من البورجوازية ربطاً تبعياً تفقد فيه وجودها السياسي كقوة مستقلة، لتكتسب فيه، وبه، وجوداً آخر هو، بالضبط، وجودها الطائفي أي وجودها كطوائف. فما دامت الطبقات المستغلّة موجودة في مثل هذه العلاقة من التبعية الطبقية التي هي فيها موجودة كطوائف، فإنها لا تمثّل أي قوة سياسية مستقلّة هي قوّتها الطبقية المناهضة للبورجوازية. إن هذا الشكل التاريخي من وجود الطبقات الكادحة كطوائف في حركة الصراع الطبقي نفسه الذي تتحكم به البورجوازية المسيطرة عبر تمثيلها الطائفي لنقيضها الطبقي، هو الذي يؤمّن للبورجوازية المسيطرة ديمومة السيطرة الطبقية، عبر تأمينه ديمومة التجدد لنظامها الطائفي الذي هو نظام سيطرتها الطبقية. من هنا أمكن القول بدقّة إن الشكل الطائفي لدولة البورجوازية اللبنانية أساسي لوجودها كدولة طبقية بورجوازية» (6).
حوّر الاستعمار مسار التطور التاريخي لمجتمعاتنا التابعة، وأدخله في تبعية بنيوية سياسية واقتصادية


الدولة اللبنانية إذن تقع في ما يسمّيه مهدي بـالتناقض المأزقي؛ «إنّ الشكل الطائفي الذي هو أساسي لوجود الدولة اللبنانية كدولة بورجوازية، هو العائق الأساسي الذي يحول دون تكوّن هذه الدولة كدولة بورجوازية. فالدولة اللبنانية واقعة إذن في هذا التناقض المأزقي بينها كدولة طائفية وبينها كدولة بورجوازية. ولا سبيل إلى خروجها من هذا التناقض الذي هو بنيتها، إلّا بانتقالها إلى بنية أخرى، ربما كانت بنية انتقالية يصعب تحديدها بدقّة بشكل مُسبَق. فقد يتداخل فيها الطابع البورجوازي بطابع آخر ينفيه، بحسب نسبة القوى الفعلية في حقل الصراع الطبقي. ذلك أن من الصعب تحديد ملامح الآتي لا سيما في زمن الانتقال. فالآتي رهنٌ بتطور حركة الصراع الطبقي الراهن، ليس بين قوى التحالف الوطني الثوري وقوى التحالف الرجعي فحسب، بل بين أطراف قوى التحالف الثوري نفسه (وبين أطراف التحالف الرجعي أيضاً). ولعل التسابق الراهِن الذي أشرنا إليه بين الحلّ الطائفي والحلّ الديمقراطي لأزمة النظام البورجوازي، قائم حتى في صفوف هذا التحالف الوطني نفسه الذي قد يستهوي الحل الطائفي بعضاً من أطرافه» (7).
باتت تلك الأطراف هي التي تهيمن اليوم على التحالف الطبقي المسيطر بعد «الإصلاح الطائفي» الذي حدث في العقد الأخير من القرن الماضي، وبعدما أضعفت تلك الأطراف منذ أواخر الثمانينات الحزب الشيوعي اللبناني، أكان عبر اغتيال العقول الثورية للحزب وكوادره التنظيمية أم تهميشه سياسياً، وإن كان عبر تضليل تاريخه النضالي الذي أسس المقاومة الشعبية ضد إسرائيل. وكانت نتيجة ذلك الإضعاف هو انتفاء حلّ التغيير الديمقراطي بقيادة الطبقة العاملة، والمضي نحو حلّ «الإصلاح الطائفي» بقيادة الطبقة المسيطرة عبر اتفاق الطائف.
«التوازن الطائفي» هو العنوان الذي عمل مهدي على تعريته سياسياً في نصوص القسم الثاني من هذا الفصل. وفي هذا القسم أيضاً، سيضع كلّ القوى السياسية الإسلامية التي واجهت في الحرب الأهلية آنذاك، الفاشية الكتائبية والاحتلال الإسرائيلي، أمام ضرورة حسمِ التناقض التي تقع فيه بين وعيها الأيديولوجي الطائفي الذي يحتّم بورجوازية مشروعها السياسي، وبين ممارستها الفعلية للصراع الطبقي إلى جانب الحزب الشيوعي اللبناني ومشروعه الثوري. هذا التناقض الذي كان يطلب مهدي حسمه، قد انحسمَ برأيي منذ اغتياله، لكنه يشعّ جلّياً اليوم، بتبعية الحكومة اللبنانية ومن تمثّل سياسياً إلى صندوق النقد الدولي.
في النص الأول، نجد عنده، نقداً سياسياً وأيديولوجياً للفكر الذي يعتبر أن التوازن الطائفي، هو الذي يؤمّن المساواة بين الطوائف، ويصحّح لهذا الفكر التعريف السياسي للتوازن الطائفي على أنه بالضرورة «توازن هيمني» أي توازن تقوم فيه كلّ الطوائف في الدولة، لكن على أساس هيمنة طائفة على أخرى. هذا ما رأيناه في المارونية السياسية آنذاك: «للتوضيح نقول إن التوازن الطائفي الذي هو أساسي لوجود الدولة وديمومتها كدولة طائفية، لا يعني المساواة بين الطوائف، وإن كان من وظيفته الأيديولوجية أن يوحي بها، أو أن يولّد في الوعي وهماً بها. إنه، بالعكس، توازن هيمني لا يقوم إلّا بهيمنة طائفية هي التي بها يتأمّن وجوده كتوازن طائفي» (8).
ومن ثم يضرب مفكرنا لبّ المشكلة عندما يسأل عن العلاقة بين الهيمنة الطبقية والهيمنة الطائفية: «لكن المشكلة الفعلية ليست في وجود هذه الهيمنة، أو في عدم وجودها، بقدر ما هي في العلاقة القائمة، في الدولة نفسها، بين الهيمنة الطبقية والهيمنة الطائفية. (...) إن الدولة اللبنانية واقعة في تناقض مأزقي هو الذي يحدد بنيتها، وهو القائم فيها، بينها كدولة بورجوازية، وبينها كدولة طائفية. في ضوء هذا التناقض البنيوي، يجب فهم ذاك التوازن الهيمني. فموقع الهيمنة الطبقية الذي هو في الدولة أساسي لوجودها كدولة بورجوازية، له، في الدولة اللبنانية، بالضرورة طابع طائفي، لأن لهذه الدولة طابعاً طائفياً.(9) (...) لقد كان التوازن الطائفي، كتوازن هيمني، هو الذي يؤمّن للدولة إمكانية القيام بوظيفتها الطبقية كدولة بورجوازية، فكان، بالتالي، أساسياً لوجودها، لأسباب تاريخية مختلفة (...) لكن الحرب الأهلية، بمراحلها المتعدّدة وما سبقها أيضاً من نضالات ديمقراطية، تؤكّد، بالملموس التاريخي، أن هذا التوازن لم يعد يؤمّن للدولة تلك الإمكانية، بل بات العائق الرئيسي الذي يحول دون قيام الدولة بوظيفتها تلك. فحركة الصراعات الطبقية فجّرت، بالعنف، التناقض المأزقي الكامن في بنية الدولة اللبنانية، وفرضت ضرورة إحداث تغيير في ذلك التوازن، وبالتالي، في الشكل الطائفي للدولة» (10).
تبيّن لنا هذه النصوص الطويلة نسبياً أن كلّ هيمنة طبقية ملازمة بالضرورة ـــ وبسبب شكل بنية الدولة ــــ بهيمنة طائفية. وهذه الهيمنة الطائفية هي التي تؤمّن السيطرة السياسية للتحالف الطبقي المسيطر، وهي التي تؤمّن بالتالي، إعادة إنتاج علاقات الإنتاج؛ أي تأجيل الأزمة الاقتصادية وتأبيد نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي. ومن المهم أن نذكر مع مهدي أن الحلّ الذي اقترحه بعض القوى السياسية البورجوازية آنذاك والتي ما زالت تقترحه كل القوى السياسية التي عندما يتحجّم دورها في السيطرة على جهاز الدولة، تصرخ بأن الحلّ هو المشاركة. مشاركة كل الطوائف في السيطرة على جهاز الدولة؛ «وبوضوح نقول إن مفهوم «المشاركة» يندرج في منظومة مفاهيم الأيديولوجية البورجوازية، في تحددها كأيديولوجية طائفية. وطابعه الطبقي البورجوازي يظهر، بوجه خاص، في تغييبه الطابع الطبقي لنظام التوازن الطائفي، وفي عرضه الأمور وحلولها كأنها قائمة بين طوائف، في غياب كلي للطبقات وللصراع بين الطبقات. لكن هذا القول لا يكفي في نقد هذا المفهوم، وليس هذا هو الأهم في نقده. وقد تكون «المشاركة» في وجهٍ منها، حلّاً طوباويّاً لأزمة فعلية، أي حلاً، بالوهم، لهذه الأزمة. والحل الوهمي هذا هو في إلغاء مساوئ النظام الطائفي، من دون إلغاء النظام نفسه، أي بالتحديد، كما أشرنا، في إلغاء الهيمنة فيه، بتقاسمها بين أكثر من طائفة» (11).
نصل الآن إلى ما كان مهدي عامل يحذّر منه، ألا وهو استبدال هيمنة طائفية بأخرى. فكما أشرنا سابقاً، المشكلة ليست في كيفية هيمنة طائفة بأداءٍ أفضل من أخرى على الدولة، المشكلة في طائفية هذه الدولة التي تتلازم مع رأسماليتها التبعية. فمهما جرّبنا من طوائف في الهيمنة على الدولة، لن تتحرر بنيتنا الاجتماعية من الأزمات السياسية والاقتصادية ما دامت محكومة بدولة طائفية. فلا المارونية السياسية استطاعت أن تحفظ البلاد من الأزمات السياسية، ولا الحريرية استطاعت لاحِقاً أن تبني اقتصاداً وطنياً منتجاً، ولا الهيمنة الشيعية اليوم قادرة على حلّ الأزمة العامّة التي نحن فيها.
لِنستمع إلى تحذير مهدي عامل بما يخصّ استبدال هيمنة طائفية بأخرى: «فلعل استبدال الهيمنة الطائفية الراهنة (المارونية السياسية آنذاك) بهيمنة طائفية أخرى - كالهيمنة الشيعية (وهذا ما حدث، بحكم علاقات الهيمنة التي فرضها النظام السوري في لبنان)، مثلاً، أو الدرزية، أو غيرهما - هو الحل المنشود، وهو الإصلاح الطائفي الممكن. في مثل هذا الحل نقول، مباشرة، إنه ليس بحل. فالعلة ليست في طائفة دون أخرى، (...) العلة هي في وجود النظام السياسي نفسه كنظام طائفي. العلة هي في وجود الدولة كدولة طائفية. فالطائفة ليست كياناً. الطائفة علاقة سياسية تتجدد بتجدد ذاك النظام، وتدوم بديمومته. فهو الذي يصون وجودها، ويؤمن إعادة إنتاجها كي تتأمن، بوجوده، ديمومة تجدد السيطرة الطبقية للطبقة البورجوازية المسيطرة، وهيمنة الفئة المهيمنة منها التي هي الطغمة المالية. هذا يعني بوضوح منطقي كلي أن وجود الطوائف جميعاً ـــ لا وجود طائفة واحدة فقط ـــ هو رهن بوجود ذاك النظام الطائفي الذي هو نظام هذه السيطرة الطبقية القائمة بهيمنة هذه الفئة المهيمنة. فبزوال هذا النظام، تزول الطوائف، بالمعنى السياسي الذي حددنا، (لا بمعنى الانتماء الديني، في ممارسته الطقسية، مثلاً)، إذ لا وجود للطوائف إلّا في هذا النظام وبه، من حيث هو نظام وجودها، في علاقات توازنها الهيمني. معنى هذا، بكل دقة، أن الوجود الفعلي - (الذي هو الوجود السياسي في ماديته) هو للنظام، لا للطوائف، لوحدة الكلّ في علاقات أطرافه، لا لكل طرف في وحدته» (12).
السيطرة السياسية في مجتمعنا، ما دامت مقرونة بالطائفية، فهي إذن مقرونة بالرأسمالية التبعية، والعكس صحيح. من غير الممكن أن يقوم نظام اقتصادي اشتراكي في لبنان، بوجود أحزاب طائفية حاكمة أو مهيمنة.

الدولة الطائفية
لقد قلنا سابقاً إن التحالف الطبقي المسيطر قد وقع في أزمة هيمنة منذ 2005، لكن قبل ذلك، حدث اتفاق الطائف في 1989، والحل السياسي للحرب الأهلية في ما بعد، وإننا لا نرى للأسف قراءة ماركسية سياسية لهذا الاتفاق عند الحزب الشيوعي اللبناني، خاصّة أنه الطرف الطبقي الثوري الذي لم يُدعَ أصلاً إلى حلّ «الإصلاح الطائفي» في السعودية. إلّا أن مهدي عامل، الذي كان منتسباً إلى الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك، بل كان عضواً في لجنته المركزية، كان قد وضع كل القوى الإسلامية التي تواجه الفاشية الطائفية، والاحتلال الإسرائيلي، أمام ضرورة حسم التناقض الواقعة فيه؛ بين وعيها الطائفي الذي سيلتزم في نهاية المطاف بالإصلاح الطائفي، أي بحلّ الطبقة المسيطرة للأزمة، أي باتفاق الطائف، وبين ممارستها الفعلية لهذا الصراع على الأرض؛ «ثمّة إذن تناقض فعلي بين موقع هذه القوى الذي هو في حقل الصراع الطبقي ضد الفاشية وهيمنتها الطائفية، بالضرورة، موقع طبقي ثوري، وبين الشكل الطائفي الذي فيه تعي علاقتها بموقعها هذا، وعلاقتها بممارستها السياسية، وحتى بالأفق التاريخي لنضالها نفسه. بإمكان هذا التناقض أن يكون بالطبع عائقاً لتطور السيرورة الثورية. لكن ما نريد تأكيده الآن في هذا المجال هو أن نضال هذه القوى ضد هيمنة الفاشية الطائفية هو الذي يعترض طريق الإصلاح الطائفي الذي قد تطمح إلى تحقيقه. بل إن نجاحها في إسقاط الهيمنة ونظامها، هو نفسه الذي يحول دون تحقيق ما قد تطمح إليه من إصلاح طائفي، في الشكل الطائفي الذي فيه تعي أزمة وطبيعة حل الأزمة. كأنها محمولة بمنطق التاريخ، مدفوعة به إلى ضرورة أن تحسم أمرها، إمّا ضد وعيها الأيديولوجي وشكله الطائفي الرجعي نفسه، في اتجاه تغيير جذري للنظام السياسي الطائفي لسيطرة البورجوازية المسيطرة، القائم بهيمنة الطغمة المالية فيه، في هيمنة الفاشية الطائفية بالذات، وإمّا [وهذا ما حدث] في اتساق مع وعيها الطائفي الرجعي ذاك، (لكن ضد المصالح الطبقية لفئاتها الكادحة بوجه خاص) - في اتجاه إصلاح طائفي لهذا النظام، به يستعيد النظام أنفاسه، في حركة تُجدِّدُ أزمته، فتتجدد، حينئذ، شروط الحرب الأهلية إياها» (13).
ما وضعه مهدي عامل في هذا النص كتناقض يجب حسمه عند هذه القوى الإسلامية، قد حُسِمَ في أواخر ثمانينات القرن الماضي في اتساق مع وعيها الطائفي الرجعي، وضد مصالح فقراء تلك القوى الإسلامية. وحسمه هو الذي أدى إلى الإصلاح الطائفي في اتفاق الطائف الذي استبدل الهيمنة الطائفية في التحالف الطبقي المسيطر من المارونية إلى الحريرية، ومن ثم إلى الشيعية. أمّا في العودة إلى إشكالية علاقة السيطرة السياسية بين الطائفي والطبقي؛ فإننا نجد أن النظام السياسي الطائفي هو الذي يؤمّن للدولة الرأسمالية التبعية في لبنان، شروط وجودها وشروط تجديدها، وتمويلها من المهيمنين على تلك القوى الطائفية في الخارج. فمهما تتبدّل طائفة المهيمن على الدولة، أو على التحالف الطبقي المسيطر، لن يتغيّر النظام الرأسمالي التبعي الذي ينجب الأزمات الدورية التي تخضعنا تَراتُباً لتبعية اقتصادية وسياسية أكبر. بالتالي الصراع الطبقي لتحويل النظام الرأسمالي التبعي هو الصراع السياسي ضد الدولة الطائفية في لبنان.

1- مهدي عامل، مناقشات وأحاديث في قضايا حركة التحرر الوطني وتميّز المفاهيم الماركسية عربياً، دار الفارابي، بيروت، 1990، ص. 309 - 310
2- علينا في هذا المجال الاقتصادي أن نقتحّ آفاق فهمنا للاستغلال الاقتصادي، ليشتمل الاستغلال الاستهلاكي (عبر السيطرة على القدرة الشرائية) والاستغلال المالي (عبر علاقات الإنتاج للرأسمال المالي)
3- مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، ص. 322
4- المرجع نفسه، ص. 323
5- الوصول إلى العلمانية مشروط بممارسة الصراع الطبقي، فبما أن الأيديولوجية الطائفية هي أيديولوجية التحالف الطبقي المسيطر، قد أخطأ من ظنّ من المفكّرين أن الوصول إلى العلمانية في مجتمعنا ممكن، إن لم تنادِ به القوى السياسية للتحالف الطبقي النقيض.
6- المرجع نفسه، ص. 325
7- المرجع نفسه، ص. 328
8- المرجع نفسه، ص. 335
9- يعتبر مهدي عامل أنه لا يجب علينا البحث في سبب ظاهرة التلازم بين طائفية الدولة وبورجوازيتها سوى في البنية الاجتماعية الأخيرة لبلداننا، أي منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وطبع مجتمعاتنا بعلاقات إنتاج رأسمالية تبعية. ولكننا نلاحظ في هذا الاعتبار تطرّفاً نظرياً لناحية إهمال تأثير العلاقات الاجتماعية ما-قبل الرأسمالية على النظام السياسي الطائفي، وهذه الإشكالية تقتضي المعالجة النظرية التي ستتجاوز حتماً ضيق تعريف مهدي للطائفية.
10- المرجع نفسه، ص. 336
11- المرجع نفسه، ص. 338
12- المرجع نفسه، ص. 343
13 ـــ المرجع نفسه، ص. 348 / بعد ما حُسِم هذا التناقض لا يمكن لنظرية مهدي عامل، أن تبقى على حالها في ما يخصّ الفهم العام للمسألة الطائفية واختزالها السياسي، وإلّا لوجِبَ على مهدي أن يتنبّأ بكيفية هذا الحسم، لا أن يطرحه كطلب؛ وكأن تلك القوى الإسلامية كانت تملك حرية الإرادة السياسية.



نقد الفكر اليومي
قبل عامين، أعادت «دار الفارابي» في بيروت إصدار الطبعة الخامسة من كتاب مهدي عامل «نقد الفكر اليومي». بدأ عامل بكتابة المؤَلّف عام 1980، فيما كانت الدوريات اليومية في تلك الفترة تنشر مواقف وآراء ونقاشات فكرية وثقافية لكتّاب من مشارب مختلفة ومتنوّعة. رأى عامل أنّ هذه الآراء لها طابع الاستحداث، وأنّ من الضروري نقد الفكر الذي تحمله، فتكوّنت فكرة كتاب «نقد الفكر اليومي» الذي ضمّ محاور عدة من بينها: موقع الفكر الماركسي في الفكر العربي المعاصر، مقولة الشرق والغرب، والاختلاف، والتيار البورجوازي المتأسلم وغيرها من القضايا...

* باحث وأستاذ في الفلسفة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا