أمضى ثابت بن مرّة ليلة سعيدة ونوماً هنيئاً، وأفاق مع أول النهار وحدس في مدينة العالم الجديد ترافق الشمس في الغياب والحضور، ورغم أن القمر ونجماته الساحرات، يجعل من السهر لذّة ومتعة ووقتاً للسمر والحديث مع الأصدقاء وفسحة لمعاذلة النفس وتأمل أحداث العالم. لكنه أحس بثقلٍ على صدره وأن ليله سيكون ثقيلاً وطويلاً. تذكر فورَ أن دخل في فراشه تلك المناظرة على تلفاز المحبة، والتي تزاح عن ذاكرته ثم لا تلبث أن تعود إليها، وقد تكون محفورة في التجويف الأيمن من الدماغ حيث الحافظة، وفق تقسيم ابن سينا الشهير، لكن من يسمع باسم هذا الفيلسوف الطبيب في مدرسة الطب المعاصرة؟ التي حوّلت الإنسان إلى حقل للاختبار والتجارب. مرات بحجة أنها تريد أن تمنع عنه الموت وأخرى تريد أن تجعل من الحياة نفسها ورقة في بورصة السياسات الدولية، القوي يمنح الحياة ويطيل الأعمار ويؤمن الشفاء، القوي ينزل الموت، ويرفعه بكبسة زرٍ.
لي تران كينه جيانغ ـ «هل أنت مريض؟» (زيت على كانفاس ـــ 120 × 150 سنتم ـ 2008)

حصل ذلك مع جانيت، سيدة في السبعين، قوية البنية لا تزال. مرت في مرحلة حرجة بعد ثلاثة أيام من دخولها مستشفى أمراض كورونا. اشتدت عليها نوبات السعال، قال الطبيب المعالج في رسالة بعث بها عبر الواتس آب، كان صدرها يعلو ويهبط ويخفت أنينها يخفت ببطء حتى يختفي. ثم تهدأ أنفاسها، ويرقد جسدها القوي البنية هامداً في السرير، ظلت ربما من قسوة آلامها، عيناها جاحظتان. مدت أصابعها الرقيقة ممرضة من أهل الرحمة، أغمضت لها جفونها، لقد ماتت بهدوء كما يليق بسيدة عاقلة.
تضيء النجوم وتشتعل، وتصل غزوات الجراد إلى غابات الأمازون، وحقول آسيا الوسطى ويبث الرعب في قلوب سكان العالم المتعب من نفخة في أنبوب، ترتفع غيوم السموم وتطرد كل الرياح فوق المحيط، في زواج هجين بين قرد وثعلب، وخفاش وثعبان، يغزو الجرثوم القاتل الأجسام والسطوح وتنفذ إلى كل مشعر ويقطع الأنفاس، تهدأ رويداً رويداً تهدأ هدوءاً أبدياً.. تغمض عينيها بأصابع ممرضة رحوم، لا تزال تعتقد أن الحياة هي من الله لا يستردها غيره، منه وإليه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان ثابت بن مرّة متلاحق الأفكار متلاحق الأنفاس يهذي. كان يتذكر وهو يتحسّس جبينه إن كانت عاودته الحمى، ويجس نبض قلبه، هل تسارع حتى انقطاع النفس، مرت في ذاكرته صور على شريط سريع، كان صديقه غبريال، يسخر من أخبار الوباء الجديد، يقول إنها لعبة الأمم، لكنها على صورة نشر الهلع لفرض السياسات.
لقد وصلت الصراعات العالمية إلى مرحلة لم تعُد معها الحرب بين الدول مبررة، وتعدّدت أسباب تراجعها لأن رقعة العالم أصبحت أضيق من حركة الصواريخ المدمرة. كل مكان في العالم في متناول صواريخ الدمار. الصواريخ الباليستية تملكها الدول الكبرى والدول الإقليمية، إضافة إلى الصواريخ العابرة للقارات والتي تحمل الدمار النووي الشامل.
تعددت أسلحة الدمار الشامل، التقليدية، الكيماوية، الذرية. وظلت الحرب الجرثومية بعيدة عن الأنظار تُطبخ على مهل في أفران المختبرات وتحاط بجدران من السرية المطلقة.
اصنع جرثوماً قاتلاً، اختبره، واستعدّ لمغادرة هذا العالم، في حادث سيارة على الطريق السريع، أو الموت غرقاً في بركة نادٍ للسباحة، أو تناول وجبة من ثمار البحر مع سم الثعبان... وعندها تنام هادئاً. يُقام لك نعي رسمي ويرثيك طلابك وأصدقاؤك، وإذا كان عندك زوجة، تنتقل لتعيش في مزرعة بعيدة، مثل غزالة في قفص ملوّن.
في زمان الحروب السريّة والإعلام المفتوح تواجهك آراء من مؤسسات دولية وفلاسفة متنوّرين أن العالم وقد تخلص من سيطرة الإمبراطوريات، واختفت فيه دنيا المنتصرين والمهزومين، وتحرّر من قيود الحرب الباردة، وأحسّ بخطر زيادة تأثير البشر في الطبيعة ومرت في ذهنه ما للحرمان في أنحاء الأرض من نتائج سلبية على العالم، لا بدّ لهذا العالم من التعاون والعيش بسلام. إن للناس في البلدان كافة حقاً في الوجود الآمن لا يقلّ عن حق الدول، إن إدارة العالم تحتاج إلى مشاركة واسعة. وينبغي إنشاء فئة جديدة من الأعضاء الدائمين.
أفكار ومشاريع وقرارات ومواثيق وخطب ومؤتمرات، وزيارات متبادلة، مراقبة مستمرة، وعقوبات دائمة، صداقات قديمة وعداوات جديدة، تبدلات وتغيرات لا تهدأ. عالم ينتظر لحظة انفجار كبرى، زلازل مدمّرة، فيضانات كبرى، تصنع أضعاف طوفان نوح وكل ذلك لا بدّ له من أمر يتعلق بالنفس الإنسانية، هذه النفس وهي في أشد مراحل الصراع تظلّ واثقة أنها سوف تبقى حيّة وسوف تنتصر.
لكن حين تفشّى الوباء، تقدّم إلى صفوف الحرب الجديدة عدوّ مختلف، صنعه البشر لكنه خرج عن سيطرتهم. المشكلة في مواجهة هذا العدو، تجد نفسك في كابوس يختصره في تصوير رائع هذا المقطع الدرامي من مسرحية يوجين يونيسكو «لعبة القتل»:
ليس هناك مستقبل/ لن يحدث شيء وكل شيء/ يمكن الوقاية منه/ الوقاية خير من العلاج/ لا يمكن في الحقيقة أن نتوقع شيئاً/ لا شيء في الحقيقة يمكن شفاءه/ ولا حتى ما يمكن توقّعه/ وخصوصاً ما يمكن توقّعه لا يمكن/ التنبّؤ به/ وخصوصاً ما يمكن علاجه لا يمكن الشفاء منه/ إنّه سمّ
ظل صديقي غبريال يفكّر أنها لعبة، مسرحية بين الدول الكبرى، حديث فضفاض عن الموت والحياة، تعويض عن امتناع الحروب. لم يتغير تفكيره حتى حين وضعوه على آلة جهاز التنفس. قال عدنان، في رسالة صوتية على الهاتف: مات غابرييل لأنه نسي أن يتنفّس...
وروى عدنان، حكاية موت امرأةٍ قال: لو كان نائب عزرائيل رجلاً لاختارها عروساً له، وأقنع معلمه أن لا يقترب منها. والأمر ليس صعباً يكفي أن يتجاوز اسمها في سجل الموتى، إن ذلك كفيل أن يعيد إليها العافية، ويجعلها تصحو، تتنفس ملء رئتيها، وترمي عنها أنبوب العناية الفائقة. كانت امرأة تستحق الحياة وأن يكون جمالها صنو سعادتها، أو صانعها، لا بأس في كل الأحوال مع أنه يصعب أن يصنع الجمال أكثر من إحساسٍ باللذة ورفعة أنف أمام المرآة.
كانت تحسب أن جرثوم الكورونا يخصّ أهل الصين، وأنه حتى يصل إلينا يلزمه أن يقطع كل حضارات طريق الحرير، وما كانت تصغي إلى من يستدل على إمكان وصول الجرثوم وقطع المسافة من ازدهار الأسواق المحلية بالصناعات الصينية، كل محلات الـOne دولار، والمحلات الأكثر غلاءً من أكبر مخازن ووهان يحمل إشارة صنع في الصين ومع ذلك لم تقتنع صوفيا بأن الجرثوم القاتل يمكنه أن يسكن في نواحي بلاد الأرز، ظلّت تتجول في الأسواق سافرة، دون قناع الوجه ودون حساب مخاطر الاختلاط وارتياد المقاهي والمطاعم والمخازن التجارية الكبرى، تدور على كل مولات البلد، وكانت بين وقت وآخر تشعل في سيارتها سيجارة أميركية. وتقول: البضاعة الصينية لا تضاهي التبغ الأميركي.
وعند إصابتها بعوارض المرض ظلت تكابر، وتقول هي حساسية الإنفلونزا الموسمية، تبتلع البنادول وتشرب الماء الساخن، وتضيف إليه ما تجمع في مطبخها من أنواع أعشاب الشاي الصيني الأخضر، اليانسون، الزهورات، ماء الورد، وماء القريص وماء الزعتر المقطر، صيدلية الطب الشعبي تجمّعت في غرفة نومها لكن زيادة العوارض والحمى، حملت زوجها على أن يستدعي الصليب الأحمر وتُنقل على وجه السرعة إلى مستشفى كورونا. وهناك أجرت فحص اختبار الجرثوم، وجاء إيجابياً ودخلت في جلجلة الآلام، والحجر الصحي، ولم يبدأ العلاج في الأيام الأولى لأمور تتعلق بالبروتوكول الطبي المعتمد حتى استفحل فيها الداء وانقطع النفس.
قال عدنان: لقد ماتت بعد أسبوع كامل. في نفس الساعة من إتمام الأسبوع الأول رن جرس الغرفة أجاب الصوت المسجل على الآلة.
هنا مستشفى كورونا، النزيل في الغرفة رقم 7، مات. نحن نتولى مراسم الدفن ويمكن لأسرتها إقامة العزاء في الذكرى السنوية الأولى، إنا لله وإنا إليه راجعون...
انتهت المكالمة...
زوجها الذي كانت تلاحقه شرطة البلدية، لتجلبه إلى الحجر الصحي، كان قد عزل نفسه في منطقة نائية، اتصل على الفور بعد إقفال المكالمة، بالدفاع المدني، وطلب منهم بصوت منقطع الأنفاس إسعافه. قال عدنان كانت آخر كلمة نطق بها قبل الموت خذوني إلى جانبها، إلى مستشفى وداع الأحباب، ودعونا نرحل معاً بسلام.
لم يمكّنه المرض من الوصول إلى غرفة العناية، مات على البوابة وحمل من سيارة الإسعاف مع زوجته سوياً إلى سيارة دفن الموتى...

* كاتب ووزير لبناني سابق