هذه رواية أخرى عن أوجاع الهجرة واللجوء، كجوابٍ على أن جنوب الكوكب يشتعل بالحروب الأهلية والمذهبية والطائفية، من دون أن يكترث لمصيره أحد. على المقلب الآخر، فإنّ تدفق اللاجئين ترك بصمة صريحة على خرائط الشمال. موجات متتالية من طالبي الهجرة حملت قيمها القديمة في الحقائب والرؤوس، من دون أن تحقّق فكرة الاندماج تماماً. عائلات ممزّقة، وأرواح منهوبة، وفزع من حرّاس الحدود. هذه الوفرة في حكايات اللاجئين رسّخت سردية من نوع آخر، أو كأن الرواية اليوم تعمل على رصد معنى الهوية والهجرة والمنفى، وتالياً إعادة تعريف الوطن بمفردات أخرى. عدا موجة الرواية الأفغانية التي تصدرتها روايات خالد حسيني («عدّاء الطائرة الورقية»، و«ألف شمس مشرقة»، و«ردّدت الجبال الصدى»)، وعتيق رحيمي («ألف منزل للحلم والرعب»، و«أرض ورماد»، و«حجر الصبر»)، سنجد موجات أخرى مشابهة تبعاً لاندلاع الحروب في هذه الخريطة أو تلك، من كوسوفو وصربيا إلى الخرائط العربية (لبنان/ العراق/ الجزائر/ سوريا). روايات تعمل على هتك الاستبداد في البلاد الأصلية، وفضح قوانين الهجرة ومنظمات الإغاثة ومعسكرات اعتقال اللاجئين بوصفهم مهاجرين لا شرعيين، وبشراً خطرين وإرهابيين، وبذلك تُهدر الكرامة مرتين.

من هذه العتبة، ترصد الروائية الكندية من أصل سيرلانكي شارون بالا في روايتها «مهاجرو القارب» (دار فواصل، ترجمة وائل بحري) المعاملة القاسية التي فرضتها السلطات الكندية على مهاجرين سيرلانكيين من التاميل وصلوا إلى البلاد في باخرتي شحن في عامي 2009 و2010، وكيف لعبت الأهواء السياسية في تحديد مصائرهم، إثر تكهنات بوجود أعضاء منظمة انفصالية مقاتلة مسؤولة عن عدد كبير من العمليات الانتحارية تدعى «نمور التاميل» واعتبار هؤلاء خطراً على الأمن القومي الكندي.
تتناوب وقائع هذه الرواية بين جحيم الحرب الأهلية في سيرلانكا، الجحيم الذي نجا منه «ماهندان» وطفله «سيليان»، ونحو 500 آخرين من جهةٍ، وحرب «الاستجواب» في مركز الاحتجاز من جهةٍ ثانية. فصل آخر من الأسى والرعب والعجز. تعقيم الأجساد بكلّ ما علق بها من أوساخ الرحلة، فصل الرجال عن النساء والأطفال، كما لو أننا حيال مختبر لفحص فصيلة من كائنات مجهولة لا آدمية، وصراعات خفية بين المحققين في مكاتب دائرة الهجرة واللاجئين. وكان الأمر بالنسبة إلى الصحافيين مجرد قصة صحافية دسمة تتعلق بضرورة طرد الباخرة وترحيل من عليها بصرف النظر عن أحقيتهم في اللجوء. سنتعقب مصير ماهندان في قفص الاستجواب، وخوفه من اكتشاف أمره بأنه عمل ميكانيكياً لإصلاح سيارات النمور مضطراً بقصد جمع مال رحلة الهروب، ما سيفسد مخطّطه في اللجوء. ستواجهه القاضية بهذه الحقائق، ما يضعه في مقام اليأس، خصوصاً بعد إبعاد طفله إلى مكانٍ آخر. لن تنطفئ نيران جرائم الحرب في دواخل هؤلاء البشر المخذولين، إذ تتناوب وقائع الرواية بين زمنين (سيريلانكا/ كندا) على خلفية من لعنة الجغرافيا واللغة والمصير الغامض بانتظار انتهاء جلسات الاستماع التي ستنتهي بقبول طلبات بعض اللاجئين وترحيل آخرين «كان جسد رانجا بلا حراك. انقطعت أنفاس ماهيندان. أيادٍ خفية أطبقت على حنجرته. اختنق ولهث كي يتنفّس، وكان لا يزال يحرك قبضة الباب ويصرخ –لا! بالتاميلية. كان رأس رانجا متدلياً. فمه مفتوح، ولسانه خارجه، لا تزال أنفاس اللحظات الأخيرة ماثلة على شفتيه». تتكشف تعقيدات الهجرة بين شخصية وأخرى، في حكايات متجاورة تضيء عتمة أرواح رهائن عالقين بين أمس مخيف يخشون العودة إليه، وأمل بمستقبلٍ مختلف، فيما تسعى شارون بالا إلى إدانة قوانين الهجرة، وفضح الخفّة التي تتعامل الصحافة والشاشات بها حيال محنة هؤلاء البشر، فهي موضوع للإثارة البصرية في المقام الأول «إنهم عقبان يحومون في المكان أملاً بتقليد المفترس». سينجو ماهيندان- في نهاية المطاف- من الترحيل، ثم سيلتقي ولده بعد غياب وقد تعلّم الإنكليزية جيداً.
استثمار الوثائق وتوظيفها في التخييل الروائي بشكل مختلف


تكمن أهمية هذه الرواية ليس بإضاءة تراجيديا اللجوء وحسب، وإنما في استثمار مئات الوثائق والبحوث ووضعها في مهب التخييل الروائي على نحو مختلف، فالخطاب السردي اليوم يعمل على اجتذاب مواد أولية من مشاتل ومصادر شتى وحياكة نسيج روائي هو خليط من تقارير ومقابلات مصوّرة، وإذا بخبر عن مهاجر سيرلانكي كان يعمل ميكانيكياً في بلاده اضطر للعمل تحت التهديد لمصلحة منظمة إرهابية يغري الروائية الكندية بمقاربة عالم اللاجئين وتمثّل سلوكياتهم، وكذلك قراءة كل ما يتعلّق بالنظام القضائي الكندي وقانون اللجوء، فلكل شخصية في الرواية بذرتها الواقعية، ولكن باختراع أسماء مختلفة عن الأصل، ومسالك جديدة منحت الرواية زخماً عاطفياً مؤثراً. سوف نتذكّر طويلاً مشهد هؤلاء البشر المكدّسين في عنبر السفينة مثل حيوانات مسلوخة، والكوابيس المفزعة التي تطاردهم على بعد آلاف الأميال من المذبحة. ثلاث وجهات نظر متباينة في قراءة محنة اللجوء، قبل أن تنخرط في حياة أخرى لا تشبه ماضيك على الإطلاق. لعل شارون بالا كتبت بشكلٍ ما ما يشبه حكايتها الشخصية، فقد هاجرت عائلتها من سيرلانكا، قبل اندلاع الحرب الأهلية بقليل إلى دبي، وولدت فيها (1979)، ثم هاجرت إلى كندا.