«يبقى مشروعي في الكتابة هو رواية قصة عن طريق الشعر، وأظن أني لن أحيد عن هذا الدرب، وأنا  بنفسي، عندما أكتب، أشعر بأنّي مترجِم أكثر من كوني كاتباً، لأني أجد نفسي عند نوع من الحدود: بين الشفاهة والكتابة، بين جذريّة ذات أصول أفريقية وأخرى أوروبية، بين لغات مختلفة تعبّر عن وجهات نظر وقصص مختلفة لخلق الكون... أنا أقرب إلى مهرِّب». هكذا يعبر ميا كوتو (1955)، أحد أبرز الكتّاب الأفارقة البيض اليوم، المتحدّرين من أولاد المستعمرين، عن الاغتراب في الكتابة والإقامة على حدود الأشياء، وهو الحائز جائزة camões، أرفع جائزة في الأدب المكتوب بالبرتغالية عام ٢٠١٤، وجائزة «نيوشتاد الدولية للأدب» عام ٢٠١٤.

عرف القرّاء العرب الروائي الموزمبيقي ميا كوتو عبر روايتين: «مدوزن الصمت» (دار دال ــــ ترجمة راغدة خوري ـــ ٢٠١٧) و«اعترافات شرسة» (دار الآداب ـــ ترجمة مارك جمال ـــ ٢٠١٩)، فيما تصدر قريباً روايته الثالثة «أرض تسير نائمة» (ترجمة مارك جمال) عن «دار الآداب» ضمن مشروع يقضي بترجمة أعمال الكاتب كاملة إلى لغة الضاد، خاصة أن أحد أبرز أعمال الكاتب «رمال الإمبراطور» قد صدر بداية العام في ثلاثة أجزاء مكتوبة بالبرتغالية. عاش كوتو أهوال الحرب في بلده الذي فضّل جنسيته على جنسية المستعمِر، وقاتل في صفوف الجبهة الوطنية لتحرير موزمبيق التي خاضت كفاحاً مريراً من أجل الاستقلال، في بلد تتعايش فيه أكثر من ٢٥ لغة، وحيث الناس يتخاطبون مع «الروح الطوطمية لأجدادهم في المساء، وفي الصباح يصيرون كاثوليكاً أو مسلمين». بعد اللغة الشعرية في «اعترافات شرسة»، يحكي ميا كوتو في ثلاثيته قسوة التاريخ بلغة شبه ناعمة. إذ أن الابتعاد عن الحرب نصف قرن تقريباً لا يُعفي الكاتب من استعمال التاريخ ولغة الماضي للكلام عن الحاضر: التاريخ في بلاد العالم الثالث يحمل روحاً مطاطية، وفي بلد مثل موزامبيق حيث الديانة المهيمنة هي في علاقة مباشرة مع الأرض والطوطم والأجداد والموتى، سيكون غزو الأراضي من الاستعمار ورواسبه أشبه في رمزيته عند أهل البلاد بهدم كنيسة، وهو ما يصوّره كوتو في ثلاثيته في الصراع بين مملكة غازا وملكها نغونغويان والبرتغال المستعمر بقيادة موزينيو وجنوده.
من تموضعه عند «الحدّ» الفاصل بين الهويات واللغات، يرى ميا كوتو في تاريخ البلاد غنى وتنوّعاً أبعد ما يكون عن المآسي الدراميّة، وينبذ الانتماء للهوية الواحدة، في بلاد «يمكن أن يتحول فيها المرء إلى أسد أو شجرة، وحيث لا حدود للهوية المطلقة»، في قلب ثقافة محلّية لا تقيم حدوداً للطبيعة، حيث يتمازج الإنسان مع هذه الطبيعة ويشكلان كُلّاً واحداً. ساعدت الثقافة الأوروبية كوتو كنقطة انطلاق نحو عوالم أخرى، كما يقول في إحدى مقابلاته، لكن أفريقيا علّمته أن يتجاوز الخوف. لم يعُد بحاجة إلى اليقينيات الكبرى، ويمكنه نسج علاقة أبوة مع الأشجار والأنهار والكائنات، فالكتابة عنده هي طريقة لترتيب عالمه الداخلي، وسبيل إلى إضفاء معنى على ما نجهله. «لقد منحتني أفريقيا هدية لا تُقدّر بثمن، أن لا أكون عدوّ ما أجهل، أن لا أمتلك حاسّة الترقّب، وأن لا أجعل من فهم العالم أداة للتحكّم والسيطرة». ترجمة ميا كوتو إلى العربية تضعنا أمام فنّ روائي لا ينفصل عن الشعر، في كتابة أقرب إلى المطر حين يضيء السماء.