«إن المفتاح الوحيد الذي يجعل الليل محتملاً، يكمن في الكتب والموسيقى» (برغسون). نحن المتورطين المأزومين بالكلمة حتى النخاع، القائمين القاعدين في مقام النوتة آلاء الوحي، نعرف صعوبة الكتابة عمّا لا يُلمس ولا يُشم، وندرك استحالة تصوير العري كاملاً في حضرة النشوة، فإذا كانت الكتابة عن القصيدة تجديفاً، والحديث عن الموسيقى مسّاً وفخاً، فثمة مغامرون أقل من عدد القارات، ومن خرائط الفرح في الكف الواحدة أمّموا الجمال وأنزلوه من أبراجه... ثمة: فيروز، عاصي ومنصور، بكامل أبهتم الشعبية وعبقريتهم الفنية وجنونهم الفنيّ، وجموحهم الشعري وبساطتهم المعقدة، ثمة الرحابنة الذين زاوجوا بين القصيدة واللحن، فأسسوا لثورة في الغناء والمسرح الغنائي والموسيقى، وثمة كاتب/ باحث، أو عاشق اختار أن يكون شاهداً أميناً وباحثاً شغوفاً وعالماً ضنيناً لـ «السيرة الرحبانية الفيروزية». هو عنوان الكتاب الصادر عن «دار موزاييك للدراسات والنشر» (٢٠٢٠، أربعة وثلاثون فصلاً و٢٧٨ صفحة) بتوطئة حميمة حيث يعلن الكاتب خطيب بدلة أنّ «من حق فيروز علينا نحن الأدباء، أن يكتب كل منا عنها كتاباً بطريقته وأسلوبه.. وهذا كتابي».


على خلاف ما يقتضيه البحث العلمي من موضوعية وحيادية، يعترف الكاتب هنا أنه يؤرخ سيرة واحدة من أهم وأكثر الظواهر والمدارس الفنية والغنائية فرادةً في القرن الماضي، ولكن بطريقته الخاصة وفقاً لإيقاعه النفسي وانفعاله الشعوري مع التجربة الرحبانية. وهذا لا يعني أبداً أن الكتاب يخلو من الجهد البحثي والتحليل الفني المختصّ، والتوثيق المسند، إلا أنك كقارئ ستدرك وتتلمس هذا الانحياز الساطع والشغف الهائل محرّكَي العمل البحثي الذي يدور في الغالب حول نقطتين أساسيتين:
- الأسباب الجوهرية لتفرّد وتميز التجربة الرحبانية.
- النص: سيرة تشكله ودوره في سطوع الأغنية الرحبانية وخلودها.
إذاً، لا يتحرج خطيب بدلة من الاعتراف الضمني بغياب المنهج الذي غالباً ما يؤطر العمل البحثي وينظمه وصولاً إلى اكتشاف الحقيقة، فالقارئ المتفحص يجد أن المعالجة هنا على شموليتها وغناها، أقرب ما تكون إلى رؤيا الفيلسوف الألماني كانط الذي يرى أن «العالم الحقيقي هو الذي تخلقه مشاعرنا، والشعور هو الطريق إلى الحقيقة».
من منظار ذاتي بحت، يقسم الباحث كتابه الذي استغرق جمع مادته أربع سنوات كاملة، إلى فصول أولى تفنّد علاقة الباحث الخاصة بهذه الظاهرة وتؤرخ لها «فيروز لي فيها حصة»، وفصول تالية تركز على سيرة تشكل النص الشعري بدءاً من اختيار المفردة، وصولاً إلى المعنى واصطفاء الصورة. فهو على طريقة البنيويين والموضوعيين على حدّ سواء، يترصد الكلمات المتكررة في أغاني فيروز، فثمة فصل (للشتي، وآخر للعمر والدار والقلب والورد، والضيعة…) يعمد إلى كل معنى، فيتتبعه تحليلاً وتمثيلاً وشرحاً وربطاً حتى يكشف عن أسباب اختياره وتأثيره.. ثم تتداخل الفصول ليعرج على علاقة الرحابنة بالشعر قديمه وحديثه، فصيحه ومحكيه. يضعها تحت مجهر التحليل والنقد بعين الراضي المأخوذ، وهذا لم يمنعه بطبيعة الحال من اللجوء إلى شاعر مخضرم كنجيب الكيالي وباحث موسيقي هو ميسر شتات، يعينانه على تشريح الظاهرة بمبضع العارف الخبير ولتأكيد ما توصل إليه بأنّ «الرحابنة شعّروا الأغنية العربية»!
وستفرد هذه القراءة الكلام باختصار على الكتاب من خلال ثلاثة محاور: اللغة والمادة والمنهج.
أولاً: المنهج.
يقول غوته: «أتريد أن تنفذ إلى اللامتناهي، فلتتقدم إذاً من دون توقف وعبر كل الاتجاهات في المتناهي». وهذا ما ركن إليه خطيب بدلة، فانتقل من الجزئي إلى الكلي، من المحدود إلى اللامحدود، من النسبي إلى المطلق.
فاختار أن يجري مسحاً للألفاظ والمعاني المتكررة في الأغاني الفيروزية، معتبراً إياها ظواهر دالة تستحق الدرس والتحليل وصولاً إلى اكتشاف دورها في تشكل العبقرية الرحبانية. والحقيقة أن هذا شبه منهج يقارب بطريقته الخاصة عمل الموضوعاتيين حيث يحل الكاتب في نصه ويتوحّد به على طريقة بوليه وريشار، وعلى ما يبدو أنه آمن مثلهما بأن أهمية الموضوع تتجلى في إلحاحيته.
على سبيل المثال لا الحصر، يتكرر العمر/ الزمن جلياً في النص الرحباني كما في أغنية «طيري يا طيارة طيري/ يا ورق وخيطان/ بدي إرجع بنت صغيري/ على سطح الجيران/ وينسانا الزمان على سطح الجيران» وغيرها من الأغاني، فما كان من بدلة، إلا أن فرد فصلاً كاملاً للحديث عن مفهوم الزمن ودلالة تكراره وخلفيته الفكرية عند عاصي ومنصور بالتحديد، ليستنتج أن الزمن كان لعبتهما التي تجاوزاها للخلود، وأنّ قيمة الإبداع الرحباني تكمن في بنائه ملامح لبنان المحبة والأرض الطيبة، لبنان الضيعة والبساطة والميجانا والدبكة والعبقرية الموسيقية وكلها ملامح لا تشيخ! ومن الجميل إشارة الباحث إلى كمية الألفاظ المستقاة من اللهجة اللبنانية الصرفة التي استخدمت للمرة الأولى في النص الرحباني كقولهم: «النهورة بدل نهر»، و«ملفى بمعنى مأوى» (ملفى الغيم) ويستخدم الباحث ذلك كدليل إضافي على لبنة الحلم الرحباني الهائل.. إلا أننا وكما أسلفنا في المقدمة ما زلنا على الرأي القائل بغياب المنهج المتكامل، ولعل هذا ما أوقع الباحث في فخ الاستطراد غير مرة.
ثانياً: اللغة
جاءت لغة الكاتب خطيب بدلة، سهلة بسيطة أحادية الدلالة، قصيرة العبارة، واثقة تنعكس في خصائصها التواصلية والإبلاغية خبرة الباحث الإذاعية والتلفزيونية، حتى في استطراداته المختلفة والمتواترة، كما لو أنّ مستمعاً يجري مداخلة على محاضرة قيمة! على أن ذلك لم يشوش ولم يشوّه السياق العام والوظيفة المنوطة بلغته التقريرية التحليلية ولا بحرصه على الاستشهاد بعد كل فكرة يطرحها مهما كبرت أو صغرت.
ثالثا: المادة
إن هذا الكتاب هو بالتحديد جهد مضنٍ، لتبيان أسرار سطوع وفرادة التجربة الرحبانية، ويعيد الكاتب ذاك إلى سببين كبيرين تتفرع منهما عناوين كثيرة:
- العبقرية الموسيقية الهائلة موهبة وثقافة وجرأة ومغامرة، وتلك الريادة في المزج بين موسيقى الشرق والغرب في مقامات ومواضع فريدة، أدت في نهاية المطاف - والكلام لبدلة - إلى استقلال فنيّ موسيقي عن الغناء المصري والبغدادي والبدوي الذي كان سائداً في لبنان آنذاك، ومن ثم إلى عالمية التجربة الرحبانية وتصدير الثقافة اللبنانية المشرقية إلى النجوم بحسب سعيد عقل.
تكرر العمر/ الزمن جلياً في النص الرحباني كما في أغنية «طيري يا طيارة طيري»


- شاعرية وشعرية الرحابنة واهتمامهم الفائق باختيار النص واللفظة والتعاطي الدقيق والمرهف والمبدع مع القصائد قديمها وحديثها أو حتى تلك النصوص التراثية التي تصرفوا بها بمنتهى الحرفنة، وهذا ما دفع كبار القامات آنذاك ليقولوا: «الرحابنة شعّروا الأغنية العربية».
يعرض الكاتب أسباباً أخرى تنبثق من هذين الرافدين، أهمها تقنية الاختزال والاختصار التي أجادها وآمن بها الرحابنة، مرددين في جلّ أعمالهم أنّ البلاغة هي الإيجاز نصاً ولحناً وتوزيعاً وغناءً (لاحظ المدة التي تستغرقها أغاني فيروز بمعظمها قياساً بأغاني ذلك الزمن. ويشير خطيب بدلة بقوة إلى تمثل الحياة الاجتماعية بكامل تفاصيلها في الأغنية الرحبانية، وإلى حماسة وجرأة هذا الثلاثي في التعامل مع الكبار (سعيد عقل، فيلمون وهبي، محمد عبد الوهاب وجوزيف حرب، وفي استلهام التراث الشعري والموسيقي من دون خوف أو تردد).
بعد هذا العرض المفصل، لم ينسَ المؤلف تخصيص بعض الفصول لتشريح وتحليل بعض الأغاني كنموذج، ولم يغفل كذلك عن عرض الشهادات والآراء قديمها وحديثها المكتوب منها والشفاهي في المدرسة الرحبانية.
تتجلى أهمية كتاب «السيرة الرحبانية الفيروزية» في أنه تعاطى مع هذه الظاهرة بشغف كبير وبحرص بحثي على جمع المادة، ما شرد منها وما وثِّق، ومن زاوية جديدة لم يسبقه إليها أحد. هو ببساطة كتاب ينصح بقراءته لأنه وفي زمن الانقسامات والجغرافيا المتوترة والقيم الضبابية، يأتي خطيب بدلة ليذكرنا بأن ثمة ثلاثياً عظيماً استطاع بالغناء أن يجمع أهل الجمال على اختلاف مشاربهم في لبنان فكراً وإنساناً وأرضاً…. وليؤكد وبمعزل عن عشقنا الهائل لفيروز أن الشغف متى اقترن بالمعرفة، يصبح إبداعاً بصيراً وواعياً. وسنغني عن استحقاق: كتبنا وما كتبنا.. ويا محلا ما كتبنا..