تنطوي كتابة شذى مصطفى في باكورتها الروائية «ما تركتُ خلفي» (دار هاشيت/ نوفل) على عمارة تخييلية مفارقة، سواء لجهة الكثافة والتقطير والخفّة في سرد الذات، أم لجهة إعادة بناء معنى أن تكون فلسطينياً ممزّقاً بين رام الله والقدس، وكيف يحدد حاجز العبور الإسرائيلي مصيرك بالرفض أو الموافقة. كتابة مقطّعة الأوصال، كما لو أننا إزاء خريطة البلاد نفسها، لكن بماكيت مصغّر يشتمل على العائلة والأصدقاء بأرقام متسلسلة (1-2 -3-4) تتكرّر، أو تقفز إلى الأمام، أو ترتد خلفاً، وفقاً لموجات التذكّر، سواء باستعمال ضمير المتكلم أو المخُاطب. هذه الحركة المقيّدة في ترميم المسافة بين الذات والآخر، هي مرآة موازية لحركتَي ذهاب وإياب المخيّلة في تدوين سيرة شخصية لطفلة وجدت نفسها ممزّقة بين الأم والأب إثر طلاقهما: «كانت أمي تعيش في رام الله وأبي في القدس. كل نهاية أسبوع، كنّا نحمل حقيبة فيها ملابسنا، ونذهب لزيارة أمّنا. كان أبي يوصلنا إلى الحاجز بين المدينتين. نقطعه وحدنا وننتظر أمي على الطرف المقابل. كانت تلك الحقيبة أكبر منّا. كنت أمشي وأفكّر: لماذا علينا أن نحمل تلك الحقيبة؟».

نمطا قيم ينعكسان على سلوك الطفلة وحيرتها بين المكانين، لجهة اللهجة (ماما/ يمّا) أو لجهة السلوك وقوانين العيب، لكنها ستنتسب إلى الأم أخيراً، وإلى طعم الحليب الذي كانت تحضّره لها، كما لن تدرك جيّداً سلوك الأب بعد خروجه من المعتقل الإسرائيلي. لن نجد هنا شعارات برّاقة، على غرار معظم الأدب الفلسطيني، وإنما سرديات خاطفة تعكس مكابدات العيش في بلاد محتلة تضيق بأهلها تدريجاً، مثلما تنبئ عن سرد مختلف ومتوتر وقلق. في الحركة (1) والحركة (2) تغلق دائرة الأم والأب، وتفاصيل علاقتهما المتوترة على الدوام، فيما تفتح الحركة (3) على دائرة الأصدقاء، وبذلك تغلق قوس الطفولة، عدا بعض الارتدادات إلى الخلف لترميم ذكرى أو حادثة أو فقدان.
في بيروت، سوف تدرس العمارة في الجامعة الأميركية. مكان ثالث سيطيح طمأنينتها، فههنا ستتفتح الراوية على قيم أخرى لطالما كانت من المحرّمات قبلاً، مثل العذرية والمثلية ومعنى الصداقة. سيقلب شارع الحمرا بحاناته ولياليه حياتها رأساً على عقب (قطعتُ الخط الأحمر ولم يحصل شيء. لم يتدهور العالم الذي أعيش فيه. عادي. «ليش كل هالخوف؟»). منحة دراسية إلى جامعة لوند في السويد، تتضمن زيارة إلى الفيليبين للقيام بدراسات عن المشاريع السكنية هناك، أوقعتها في الحب (تذكر اليوم والشهر والسنة). ثلاثة أسابيع تفجّرت بحب عاصف لطالب سويدي «أما الأيام الباقية من الأسابيع الثلاثة التي قضيناها في الفيليبين، فلا أستطيع أن أكمل الحديث عنها. كنتُ قد وقعتُ في حبّك. وعقلي تاه عن قلبي ولم يعد معي». ستطيح الحركة (4) بكل ما سبقها، إذ تهيمن على السرد بوصفها مركزاً، سواء بخصوص تأجج العاطفة أو خذلانها، ذلك أن حكاية العشق ستنطفئ عملياً بمجرد عودة الراوية إلى بيروت، وكان عليها أن تقف «دقيقة صمت» على روح تلك العلاقة التي هزّت كيانها بعنف، قبل أن ترتد إلى المربع الأول في مشهديات عن الأم بقصد المقارنة بينهما بما يتعلّق بمفهوم الحب والخيبات العاطفية، جنباً إلى جنب مع شخصية الأب: «كنتُ أشعر بأن بيننا حاجزاً. ولكن على عكس حاجز قلنديا، لم نتمكّن أبداً من اجتيازه». هذه الدورة الالتفافية نحو الأمس، تتجاوز الذات نحو ما هو مؤلم أكثر بالنسبة إلى الفلسطيني: «بطاقة الهوية التي أحملها هي بطاقة ذلّ. ذلّ بحت. حاملها يعيش تحت التهديد الدائم بأن تؤخذ منه».
لن نجد هنا شعارات برّاقة، على غرار معظم الأدب الفلسطيني


على الأرجح، فإن تفكّك العائلة الفلسطينية جزء من تفكّك جغرافيا البلاد، وكأن «ليس للفلسطيني إلا الريح». ولهذا السبب تتشبث الراوية بقصة حب منتهية، في محاولة لإنكار الوقائع اللاحقة: «لا أظن أن هذا يعني أنّي توقفت عن حبك. هذا يعني فقط أنني أصبحت أحبّك مثلما أحبّ شيئاً قديماً. مثل سترة قديمة أحببتها ولم تعد تناسبني بعد الآن». هكذا تأتي الكتابة كعلاج للخروج من قفص الخوف. تقول الأم: «أنا بكبّ وبمشي يا بنتي»، فتجيب الابنة: «أنا أيضاً بكتب وبمشي يا أمي». ولكنها كتابة الوجع والاعترافات والتحرّر من الخوف، بناءً على نصيحة موثوقة «لمّا مننشر وسخنا، بينشف بالشمس». بالنسبة إلى القارئ المتلصص، سيجد في هذه الرواية كل ما يرغبه من مشهيّات، في حال اعتبرها سيرة ذاتية، نظراً إلى التقاطعات الواضحة التي تنسف المسافة علناً بين المؤلفة والراوية!