
لا وقت للخيال هنا، فقد دوّن محمد ديب مسودة ضخمة عن وقائع عاشها عن كثب بمرارة، مثلما تنبأ بـ «حريق» سيشبّ من تحت الرماد. وإذا بهذه الثلاثية تتحوّل إلى تأريخ موازٍ لحرب التحرير الجزائرية في خمسينيات القرن المنصرم، لكنه ــ في نهاية المطاف ـــ سيدفع ثمناً باهظاً، بنفيه خارج البلاد. كان محمد ديب مخزن تجارب، فمن اليتم المبكر إلى العمل في التعليم، وسكة الحديد ومعمل النسيج، ثم مترجماً في جيش الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. كما عمل في الصحافة إلى جانب كاتب ياسين وألبير كامو، مترحلاً من تلمسان إلى المغرب، وصولاً إلى باريس، في عزلةٍ طويلة، وسيُدفن في مقبرة سان كلو، بعيداً عن هواء تلمسان. هذه التجارب الغنية تسللت إلى نصوصه، من دون زخرفة. مشاهد الجوع في «الدار الكبيرة» تنطوي على مكابدات شخصية لفرط واقعيتها وقسوتها وخشونتها، وكذلك تجربته في معمل النسيج (النول). كتابة غير مهادنة ستتطور سردياً على مراحل لاكتشافه ضرورة «إنارة عتمات عصرنا بأضواء كاشفة»، ما أثار سخط البوليس الفرنسي لتجاوزه الخط الأحمر في المواجهة. عدا الثلاثية، كتب صاحب «الإله في بلاد البرابرة» نحو 30 عملاً في الشعر والمسرح والقصة والترجمة، مؤكّداً على الحميمية والروح العجائبية لشخصياته المحليّة التي كانت حينذاك تعيش مهمّشة خارج المشهد، بين قوسي البحر والصحراء «ليس هناك من شيء سوى الصحراء. ما من شيء. أنا أعرف ما هي الصحراء. أنا من الصحراء أيضاً. نحن أمام صحراء أكبر فقط. لا شيء يحدث، لا شيء يُرى، ما عدا هذا السياج الذي يفصلنا عنها» يقول. سيلتفت لاحقاً إلى توثيق الحكايات الشعبية الجزائرية في مجلدٍ ضخم، كأنه أدرك ضرورة استعادة هويته الأولى على نحوٍ آخر. في مئويته التي تصادف في هذا العام المضطرب، سيكمل محمد ديب عزلته وغيابه وشجنه. على الأرجح ستعبر ذكراه بصمت، وكأنه لم يؤرشف فسيفساء الجزائر يوماً، في يوتوبيا مضادة، لعله قدر الآباء الروحيين، ألم يمت وحيداً في المنفى؟