اكتسب نور الدين كريديس (1955) شهرته كأحد أبرز أسماء علم النفس في تونس، باحثاً ومحللاً نفسياً وأستاذاً جامعياً، وأحد الباحثين العرب القلة الحاضرين في الجمعيات الدولية لعلم النفس. بالنسبة إليه، كان علم النفس وسيلة للعبور إلى الكتابة الأدبية. رأى باكراً أن العلوم الإنسانية والاجتماعيّة هي سبيله إلى فهم الواقع الإنساني، وإلى مدّ كتابته الأدبية بأبعاد أكثر عمقاً، مقتفياً بذلك مسيرة الروائي المصري نجيب محفوظ الذي درس الفلسفة قبل أن يحسم الأمر للأدب في النهاية. لكن الاختصاص الأكاديمي استولى على كتابات كريديس لفترة طويلة في مؤلّفات بحثيّة متنوّعة باللغة الفرنسيّة، تركّز على التواصل بشكل أساسي منذ أعماله الأولى: «التواصل والتربية... انطلاقاً من لويس كارول» (1984)، و«فيتاميات المعنى» (1992)، و«بسيكولوجيا الفنان الخالق» (2010)، و«أن نفكّر في الثورة» (2012). انتظر كريديس حتى سنة 2018، لكي ينشر مؤلَّفين أدبيين باللغة العربية هذه المرّة. لم يكن الأمر خياراً، بقدر ما أعادته الكتابة الأدبيّة إلى لغة الضاد في مجموعته القصصية «آخر طائرة إلى تونس» (منشورات «نحن»)، وفي رواية «الرحيل» التي أولى فيها أهمية إلى اللغة التونسية الدارجة. في حواره مع «الأخبار»، تنقّل الكاتب والأكاديمي التونسي بين مجالَي الأدب وعلم النفس. شاركنا قراءاته الأخيرة خلال فترة الحجر المنزلي، وبعض التحوّلات التي يمكن تطرأ على سلوكيات المجتمعات وطرق تفكيرها بعد انقضاء الوباء. كذلك، تناول واقع علم النفس في تونس، ودعانا إلى عالمه الصغير المؤثث بالقراءات وبالتفاعل العميق مع الواقع، بالإضافة إلى مشاريعه المقبلة في الأدب والترجمة والبحث.


هل أثرت الإجراءات التي يعيشها العالم للوقاية من فيروس كورونا على حياتك ككاتب؟
مثل كلّ الناس، أصابني فيروس كورونا وتبعاته بالقلق. لكني كنت أنسى هذه الأزمة ما أن أنغمس في نشاطي اليومي مثل القراءة والكتابة والتواصل مع أشخاص في إطار العمل عبر الإنترنت، أو مشاهدة بعض الأفلام والمشي، فيما ظلّت مشاهدتي للأخبار تقتصر على نشرة واحدة عند الساعة الثامنة مساء. في هذه الفترة، أقبلت على القراءة بشكل مكثّف. اكتشفت عشرات الكتب من تلك التي كانت ما زالت مكدسة على الرفوف، خصوصاً مع صعوبة إيجاد الوقت الكافي في سائر الأيام قبل هذه الأزمة. أتذكّر دائماً حكاية العالم الروسي الذي نجا بأعجوبة من الدمار الشامل الذي لحق بمدينة ستلينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية. ما أنقذه أنه كان يستيقظ كل صباح من كل يوم ليقوم بالأشياء نفسها: يذهب إلى مخبره أو ما بقي منه في المبنى المدمر. كان يقضي يومه كأنه يوم عادي ثم يعود إلى بيته في آخر النهار، قام بهذا كلّ يوم، وقد أنقذه هذا الروتين من مواجهة الرعب الذي كان يخيم على المدينة المحطمة.

باعتبارك اختصاصياً نفسياً، هل ترى تغييرات مستقبلية ستطال سلوك الناس بعد الأزمة؟
لا يمكن لأحد أن يتوقّع المستقبل، أو ما تخفيه الأيّام المقبلة. هناك أشياء مجهولة إيجابية أو سلبية قد تحدث، ولكن أعتقد بصفة عامة أن الناس سيعودون إلى سائر سلوكياتهم اليومية. لدى الناس قدرة غريبة على التجاوز والتأقلم لأنها السبيل الوحيد لاستمرار الحياة. لكن الصدمة التي تلقّتها البشرية ستزيد حتماً من سلوك الوقاية والحذر والحيطة الذي قد يستمر لمدة طويلة من الزمن حتى بعد القضاء على فيروس كورونا. إذ لا شك في أن فيروسات أخرى ستعبث بالإنسانية في مناسبات مقبلة، لأن هناك ثغرة فُتحت ولن تندمل بسهولة. على الناس التعود على أن هناك عناصر قاتلة في المحيط تتربص بهم. من المحتمل أن ظاهرة الخوف وربما الانغلاق على النفس ستنتشر، وكذلك بالنسبة إلى المجتمعات.

انشغل معظم الاختصاصيين في مجالات مختلفة بالوباء، هل تعتقد أنه سيكون له حضور في أعمالك خلال السنوات المقبلة؟ هل تفكر في كتابة شيء من هذا القبيل؟
هناك فترة اختمار ضرورية يحتاج لها إنجاز أيّ عمل فني حول هذه الآفة. لكن من دون شك، سيكون لها حضور في أعمال السنوات المقبلة. في الحقيقة، لم تكن مواجهة الأوبئة أمراً جديداً على الإنسانية. في مؤلّفه «الخوف في الغرب (من القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر): مدينة محاصرة»، كتب المؤرخ الفرنسي جان ديليمو عن كيفيّة مواجهة المجتمعات الغربية للأوبئة، وما نتج عنها من مخاوف وتغيّرات اجتماعية. ولعلّ الرجوع إلى هذه الوثائق التاريخية يساعد على وضع الأوبئة في إطار زمني عام، وفي إطار جغرافي واسع.

بدأت أوّلاً بكتابات بحثية في علم النفس، ومنذ سنتين خضت تجربة أدبية في الرواية والقصة، أين ستكون كتاباتك القادمة؟
في المجالين. هناك أعمال كثيرة على الطاولة. أنا منغمس حالياً في كتابة رواية، ولكن الكتابة عمل عسير وشاق وله قواعد غير منطقية، لذلك أعالج هذا النص منذ أكثر من سنتين، لكنه يفعل بي ما يشاء أكثر مما أفعل به. كذلك لي عمل حول الطفولة في تونس وهي دراسة ميدانية قيد الإنجاز، وكذلك أقوم بتعريب كتاب حول التواصل من الفرنسية.
تختلف اللغة بين الكتابة البحثية والأدبية. لقد درست علم النفس باللغة الفرنسية. ولكن الأدب كتبته منذ البداية باللغة العربية، ليس لأن الأخيرة لغة أدب ولا لأن الفرنسية لغة علم، بل لأن الكتابة اختارت لغتها منذ البداية ومعها المفاتيح والمتاهات والألغاز. ولغتي هي نافذة على الشخصيات وعلى الزمان والمكان. لذلك، عندما تقرأ رواية «الرحيل»، فإنّك تقرأ كتاباً عن فترة زمنية وعن مكان، بلغة ذلك الزمان وذلك المكان. أوليت الاعتبار في الكتاب إلى اللغة التونسية الدارجة أي لغة كل يوم، من دون أن تكون زائدة أو في غير مكانها. هي لغة نشتم منها رائحة المطر وعودة الغائب ولعب الأطفال مثل كتب الروائي الفرنسي مارسيل بانيول، التي تتحدث عن الجنوب الفرنسي بجماله وخصوصياته وتفرده بنطقه وشخصياته، من دون الخضوع لهيمنة المركزية الباريسية. «الرحيل» هي مواكبة لفترة من حياة زنقة كما هي موجودة في العديد من المدن التونسية في سنوات ما بعد الاستقلال... وكيف سيقوم القطار بقطع المسافات اللازمة حتى تستعيد الذاكرة ما تسمح به هي فقط. فالذاكرة تفعل ما تشاء، تستحضر وتنسى، تهمل وتقصّ، تستعيد وتمنح نفسها... وليس الشاعر أو الروائي إلا ذلك المشاهد لتلك النجوم المتهافتة التي نراها أحياناً من دون سابق إنذار ليلاً، والتي لا تمنح سرّها إلا لمن أبصرها، من دون أن تكون له القدرة على استرجاعها للآخرين كما رآها بكل دقة. هكذا هو عمل الراوي والشاعر، بحث دؤوب عن ذلك الضوء المباغت والهارب، إنه بحث عن المعنى. ذلك المعنى هو غذاء روح الأفراد والشعوب.
وفي ما يخصّ «أوّل طائرة إلى تونس»، فهي كما يوحي عنوانها برنامج عكسي، لكني لم أكن على دراية بهذا منذ البداية. لقد اكتشفت ذلك لاحقاً كقارئ لنصي. هو برنامج عكسي، انطلاقاً من رواية لأحداث شخص كان يعيش لمدة 27 سنة في ألمانيا. إنه برنامج يعاكس كل البرامج المقترحة على الشباب المظلوم والمحروم أو على من يشعر بنفسه كذلك، وهذه البرامج تتمثل في الحرقة إلى السفر خلسة على متن أول سفينة أو قارب صيد إلى أي وجهة أوروبية. ولكنني لم أقل شيئاً عن كل هذا في تلك القصة القصيرة. بل هي مجرد سرد أحداث لمهاجر تونسي قرّر فجأة أن يعود في «أوّل طائرة إلى تونس». هكذا هي كل الأقاصيص القصيرة في المجموعة القصصية.

إلى أي حدّ يستفيد كاتب السرد لديك من الباحث في علم النفس؟ وبشكل عام كيف ترى العلاقة بين المجالين اللذين تتحرك بينهما كتابة البحث العلمي والكتابة الأدبية في العالم العربي؟
لقد كان الأديب المصري نجيب محفوظ قدوتي في سنوات الشباب. قرأت كتبه، وعلمت أنه كان قد درس الفلسفة قبل أن يختار الوظيفة الإدارية ليتفرغ تماماً إلى الكتابة. وليس بعيداً عن هذا المسار، كنت واثقاً في تلك الفترة أنه لا بدّ لي من العلوم الإنسانية والاجتماعية وخصوصاً علم النفس لكي تزداد كتاباتي عمقاً، ولكي أصبح قادراً على فهم الواقع والإنسان، وهذا ما يفسّر جزئياً اختياري للفلسفة ولعلم النفس كدراسة جامعية. ولكن ما لم أكن قد خطّطت له هو بقائي في البحث والتدريس كل هذه السنين، بعيداً عن حبي الأول. وعلمت في ما بعد أن الأدب لا يقوى بالعلم، بل العكس. ولعل ذلك ما اكتشفته بعد سنوات الدراسة والبحث والتدريس.
ليس للجميع القدرة على خوض المواجهة الذاتية التي فرضها الحجر المنزلي، بما يعتريها من قلق ويأس واضطراب


عدد كبير من الأدباء جمعوا بين الفلسفة والأدب كجان بول سارتر وألبير كامو، ولكن هذا الترابط بين الحقلين بدأ يتقلص شيئاً فشيئاً تحت ضغط التخصّص المفرط للجامعيين وضعف الرؤى التي تؤجج ضمائرهم، إلى أن أصبحت هناك عند البعض منهم قطيعة بين الأدب والعلم. والحال أن كثيراً من العلم موجود في الأدب والشعر والمسرح. كتب سيغموند فرويد مستلهمة من التراث المسرحي اليوناني... الفيلسوف ميشال سير يفكّك الأدب والعلم بنفس الشبكة والمفاهيم مثل التواصل، وعالماً في الأعصاب مثل انطونيو دمازيو، يعود إلى فلسفة سبينوزا وديكارت ليفنّد نظرية العمل الدماغي والعصبي بدون ركيزة دافعية وانفعالية وشعورية. فهو يعود إلى وقود الأدب والفن أي الشعور والانفعال وفي هذا هو سباق لجميع اكتشافات العلم الآتية.... إذن، دخولي إلى العلوم الإنسانية كان بمثابة تمهيد لكي تتكوّن لي ركيزة لفهم الذات البشرية والواقع الإنساني، ولكي أتمكّن من العودة إلى غرامي الأول مسلحاً بهذه الأدوات. ولكن لا شيء من هذا حدث، لأن للعلم مقاييس ونواميس تضبطه، وللأدب حقلاً كاملاً ليس فيه من الضوابط سوى تلك التي يفرضها هو داخل الحقل. مثلاً كتاب بيار بورديو «قواعد الفن»، يبيّن استقلاليّة الحقل الأدبي وانفراده بنواميس هو الوحيد المؤتمن عليها والذي بفضله نميز من هو الأديب ومن هو غير ذلك... ولكن ليس هناك قطيعة بين الأدب والعلم. الكثير من العلم موجود في الأدب. وقود الأدب والفن هو الشعور والانفعال وفي هذا هو سباق أحياناً لاكتشافات العلم الآتية لكن للأسف، هناك قطيعة بين الأدب والعلم في مجتمعاتنا العربية وهي من علامات التخلّف الحضاري، ويعود ذلك إلى منظومة التعليم في مدارسنا وتعويد الأدمغة على هذه القطيعة.

تمارس العلاج النفسي في عيادة خاصة. هل ترى أن شهرتك ككاتب تسهم في بناء الثقة مع من يقبلون عليك أم العكس؟
في الحقيقة أغلب زبائني يأتون من أجل مشكلة شخصية أو عائلية أو مشكلة مرتبطة بعملهم، ويقتصر تدخّلي على مرافقتهم لإيجاد الحل المناسب لتجاوز تلك المشكلة. وفي معظم الأحيان، لا يولون أهمية إلى انخراطي في الكتابة الأدبية أو على الأقل هذا ما يبدو لي. لكن طلبتي في الجامعة، كانوا يتفاعلون مع ذلك، وأعتقد أن ذلك يعود إلى فكرتهم عن أن الأدب وعلم النفس يلتقيان بما أنهما نافذة مفتوحة على الواقع العميق عند الإنسان. أما مسألة الثقة، فهي تنبني داخل العلاقة بين الاختصاصي النفسي والكاتب الأدبي، وهي لا تتأثر بعوامل خارجية مثل الشهرة أو غيرها.

أخيراً صدر فيلم «أريكة في تونس» للمخرجة منال العبيدي حول واقع التحليل النفسي. ما رأيك بالفيلم؟ وهل ترى أن الصورة التي يعكسها عن تونس صادقة؟
لم أشاهد هذا الفيلم، لكن تعرفت على بعض اللقطات وقرأت عنه بعض المقالات. لا يمكنني أن أشارك رأيي إلا بعد مشاهدته. لكن بصورة عامة، فإن حضور علم النفس والتحليل النفسي في المجتمع التونسي يتوسّع باستمرار. الوضع الآن يختلف عما كان عليه قبل خمسين أو أربعين سنة. فالحاجة إلى تدخل الاختصاصي والطبيب والمحلل النفسي هي الآن أمر يكاد يكون عادياً... ويشهد الطلب الاجتماعي على هذه الخدمة ازدياداً كبيراً من حيث الحجم والنوعية وتبقى المشكلة جودة الخدمات وقيمتها هي الحكم بينها.

هل يمكنك أن تحدثنا عن عملك البحثي المقبل، وعن نوعية البحوث المعرفية التي تخوضها في بنائه؟
إن مسألة التواصل هي محور أساسي منذ أعمالي الأولى، ولا تزال إلى يومنا هذا. حالياً، أنا في صدد إنهاء عمل في علم نفس التواصل باللغة العربية. ولكن ذلك يتطلب وقتاً وهو مرتبط بما يسمى التواصل الاستراتيجي الذي يعتمد على نموذج قام بابتكاره اختصاصيون أميركيون في معهد البحوث العقلية M.R.I (mental research institute )، ويتم اعتماده اليوم في عدد من البحوث ومراكز التكوين والعلاج.

ماذا تقرأ في هذه الفترة؟ وهل ساعدتك بعض الكتب التي قرأتها في فهم أبعاد الأزمة؟ وهل هناك عناوين معينة تنصح بها لقارئ العربي؟
في هذه الفترة الحالكة، شاءت الصدف أن تقع بين يدي مجموعة من الكتب للمؤلف الأميركي من أصل لبناني نسيم نقولا طالب، تجتمع فيها خصائص الكتب المثيرة للذكاء والمختلفة عما هو مألوف. وقصتي مع هذه الكتب عجيبة وغريبة وخصوصاً أنها كتب نزلت من السماء كما يقول المثل الفرنسي، أي أنها جاءت في الوقت المناسب. من بين هذه الكتب سأركّز على كتاب «البجعة السوداء ــ تداعيات الأحداث غير المتوقّعة» (The Black Swan: The Impact of the Highly Improbable ــ 2007) وقد قرأته بترجمته الفرنسية. يقوم الكتاب الضخم الذي يتجاوز الـ 600 صفحة على فكرة استحالة التعرف إلى المستقبل رغم محاولات العلم وأدواته الإحصائية المعروفة والمتطوّرة جداً. ويطلق الكاتب على هذه الأحداث غير المتوقعة والتي لم تكن في الحسبان صفة «البجعة السوداء»، التي يمكن أن تكون بجعة سوداء إيجابية وبجعة سوداء سلبية. ويتضمن الكتاب كيفية الاستعداد والتوقّي من هذه الظواهر النادرة التي يتّسم بها المستقبل غير المؤكد. وفي وضعنا الحالي، كانت البجعة السوداء هي ظهور وباء كورونا بشكل مفاجئ وغير مسبوق بحيث فاجأ جميع المجتمعات والحكومات من السند إلى الهند. إذ أصبحت جميع الاستراتيجيات المعهودة لمواجهة الكوارث غير مناسبة للوضع، وما نعيشه اليوم هو نتيجة فكرنا بأن المستقبل يحييه الماضي ولا شيء جديداً تحت الشمس. لذلك نامت جميع المجتمعات وخاصة الغربية على فكرة السيطرة في كل شيء وعلى الرفاه وعلى قدرة الطب وقدرة العلم واليقين به ونسيت ما تخبئه لها الأيام من مفاجآت سارّة وغير سارة. ويوصي نسيم نقولا طالب بعدم الإفراط في التمسك بالحقائق وتفضيل دروس الواقع والعودة إلى حكمة القدامى، والتواضع المعرفي لأن الزمن هو المقياس الوحيد والحكم الأخير لتنبؤاتنا. ووقوع هذا الكتاب بين يدي في هذه الفترة تحديداً، جاء كالبجعة السوداء. إذ سهّلت قراءته عليّ تحمل تبعات البجعة السوداء الأخرى المتمثلة في فيروس كورونا على العالم بأسره، ومنحتني فهماً نسبياً لما يحدث بشكل عام. ثانياً، هناك كتاب صغير هو رواية كتبها ميشال تورنييه، وهي موجّهة إلى الشباب بعنوان vendredi ou la vie sauvage وصدرت ترجمتها العربية بعنوان «جمعة أو حياة الفطرة» عن «دار الجنوب» (2003). لقد أعدت قراءتها هذه الأيام ووجدت فيها أجوبة لمسائل تتعلق بتجربة العزلة الإجبارية، التي أجبرت الناس على الانفراد تحت مصطلح غريب هو «الحجر الصحي» الذاتي والشامل. في الحقيقة، يتعلّق الأمر بفرض مواجهة الأشخاص لأنفسهم في رحلة داخلية غير معهودة وغير مؤمنة. قبل كارثة فيروس كورونا، كانت الأيام تقتصر على اللهاث وراء أشياء خارجية: العمل، الطريق، المجتمع. واليوم يقبع الواحد أمام نفسه، محاطاً بخطر الإصابة، فيما خطر الموت يحدق بنا. إن وضعية روبنسون في كتاب مشال تورنييه تشبه أي شخص منا هذه الأيام. حتى الآن، نحن نعتبر من الناجين من هذه الكارثة مثلما نجا روبنسون بعد غرق سفينته فرجينيا ودفعته الأمواج إلى شاطئ جزيرة غير مسكونة، أطلق عليها اسم اسبيرنزا، وتعني أمل. الرحلة التي قام بها روبنسون منذ ذلك الحين تشبه كثيراً ما نقوم به الآن، فهي رحلة داخلية ولقاء الذات مع الذات يعتريه الاضطراب والقلق والحيرة ويتلاعب به اليأس والأمل والعزيمة والإحباط والرجوع إلى الوراء والحزن والوقوف مجدداً والبحث عن إعادة تنظيم الحياة. كل هذه التقلبات تحمل مفاجآت جديدة إلى روبنسون تتلخص في التعرف إلى نقاط ضعفه وقوته وتلمس شكوكه وهشاشة يقينه والاستسلام إلى تصاريف الحياة واستقبالها بل عناد. هذا ما يذكّر بأن الإنسان واحد، وبأن الخوف واحد وردود الفعل هي هي. لكن ليست لكل الأشخاص القدرة على خوض هذه الرحلة الداخلية والخروج منها بأقل الأضرار. لذلك، وجب الاحتياط والحذر واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لمرافقة الذين هم في حاجة إلى ذلك، وتقديم الإعانة لهم كما هي الحال في بعض البلدان وبعض الجهات (هاتف أخضر للرعاية النفسية والاجتماعية مثلاً) وتطويق ما بعد الأزمة بالقدر المستطاع.