1. تذكَّر اسمك الشخصيحين ينساكَ الجميع، تذكَّر اسمكَ الشخصيّ. تذكّر كلّ حرفٍ من حروفه الصّامتة. تخيّل أنّه وليدٌ هشّ بحجمِ كفٍّ صغيرة، جاء إلى العالم في توقيتٍ خاطئ، ثمّ أسلمَ الرّوح بعد الولادةِ بقليل. تذكّر أنّ له مقابلاً شبهَ مطلق في الكفّة الثانية من الميزان. فُكَّ شيفرتَه وصَفِّق مثل مَن عثَر أخيراً على تَميمة. سيكشفُ لك وجهاً آخر، أصفَى من حلمِ يقظة، وبسيطاً كجُرحٍ صغير. مع كلِّ حرفٍ، سيخرجُ بعضُ الهواء الخفيف ولن يعود. مع كلّ حركةٍ، ستصعدُ غيمةٌ حزينة إلى السماء وتُهشّم وجهها على المرآة. وحدها شرارةُ أنفاسك اللّامعة ستبقى متلألئةً طوال اللَيل، مثل صليبٍ أخضر معلّقٍ في نهاية الشارع. تذكَّر ذلك أيضاً، حتى لو نسيتَ جميع أسمائك الماضية، جميع أسمائك المقبلة، ثمّ انفُخ بهدوءٍ على رُكامها الأخفّ من حبّةِ غبار. تأمّل رقصتها الأخيرة وهي تغادر العالم، لتحلّق بعيداً وتنجو من كلّ هذا الخراب.

جيوفاني شيارامونتي ــ من سلسلة «المحيط اللاتيني» (1997ــــ 2017)


2. كلام عن البحر
كلامٌ عن البحر. أردّدهُ مع نفسي وأنا أتمشّى ليلاً، عاقداً يديّ خلف ظهري. لقد صرتُ لعبةَ خذروفٍ بدائيّة، يتدحرجُ معها كلُّ شيءٍ نحو لا شيء في هذا الجانب الميّتِ من المدينة. يهبُّ نسيمٌ بحريّ من طفولتي، خفيفاً ومعتَّقاً، سرعان ما يبتلعه صخبُ الآلات السرّية. كلامٌ عن البحر. أردّده في صمتٍ، من دون أن أخطئ في نطقِ علاماتِ المدّ والجزر. أصبُّ فيه كلّ ما لديّ دفعةً واحدة قبل فوات الأوان: حياتي وهي ترقدُ مرتعشةً على الرمال، مثل فاصلةٍ سوداء تحضن فاصلةً بيضاء، ومن عناقهما الكامل تصدحُ موسيقى أبديّة، وتهوي في عينِ الصّمت قطرةُ دواءٍ فاسدة.

3. صباح تراجيدي
وحدهُ هذا الصباح التراجيديّ أبقانا أحياءً حتّى الآن. رائحته في أيدينا تشبهُ خطوط الموت والحبّ المتقاطعة، لن يمحوها صابون مضادٌّ للجراثيم أو مُعقِّمُ كحوليّ مُركَّز. لقد دخلنا مع الفئة التي فُرضَ عليها التّعايش. لم نعد نبالي بخشخشةِ النّهر الكبير تحت سريرنا، ولا بالطوفان العظيم الذي يحاصر بيوتنا الخربة، ولا بانفجار وتبدُّد أجسامنا الواقعية، التي صارت تطوفُ من حولنا مثل ريشٍ انفصل عن الروح. نزحفُ على البلاط ونتذوّق بألسنتنا الجافّة ملحَ هذه الأمواجٍ التي تكسّرت طويلاً على الجدران، رغم أنّنا لم نتدرّب على طعمها الفجّ منذ الولادة. لم نعد نبحثُ عن ملاذاتٍ آمنة في مُنتصفِ الحياة. تكفينا هذه الأجسادُ النحيلة والضيّقة، المغروسةُ إلى الأعناق تحت أهراماتِ الرمل. تكفينا دموعٌ قليلة ومُضيئة كالخنافسِ في منتصفِ الليل.

4. الشاعر والحمار الوحشي
لا أحبُّ هذه الكلمة: «شاعر». تبدو مجرّد توليفة اعتباطية، أربعةُ حروفٍ جوفاء ومتنافرة، لا روح فيها ولا معنى. قد يبدو وضعُها مُريحاً بين حجرين أبيضين عاريين، مصبُوغين بالجير فقط، من دون شاهدةٍ يزاحم فيها الشُّوك البرّيُ أزهاراً وحشيّة. بل حتّى راحة القبر هذه لا تكفي. لا بدّ من نبش جثّةِ الشاعر مباشرةً بعد الدفن، واستبدالها بجثّة أخرى أكثر صلابة وواقعية، على مقاسِ هذه الأرض: حمارٌ وحشيّ مثلاً. كلاهما مُخطّطٌ بالأبيضِ والأسود، لا يرى الألوانَ بوضوح، وتَعافُ لَحمَه المرَّ جميعُ أنواع الخلائق: من الدناصير إلى فراخِ الرُّوبوتات. لكنّه، رغم ضراوة الحياةِ العصريّة الّتي تسحقُه على مهل، وشُحِّ الأمطار والوديان عاماً بعد عام، وانكماش الحقول والحدائق، وزحفِ الصحراء، واحتراق العشب في الغابات، ما يزال يسرحُ طليقاً في براري العالم، مَلِكاً ضليلاً يحلمُ باسترجاعِ تاجِه المغتصَب.

5. رسالة محقونة في عروق النانو
حين يقتلُ الشّعر شاعراً، ترجع كلماتُه إلى السّماء، مثلما ترجع أوراق الخريف إلى كسوةِ الشجرة، في لقطةِ فيديو بالمقلوب: نديّةً، خضراءَ، مطهَّرة، ومغموسةً برذاذِ مطرٍ مالح. بينما يتردّد في الطرف البعيد من البلدة نباحٌ مشؤوم، لن يعرف أحدٌ مصدره. لقد تلوّث الجسدُ بضجيج الأخبار المُعادة والمملّة حدّ الغثيان، وجفّت آخر رسالةٍ محقونة في عروق النانو، ولم تعد هناك حاجةٌ لرمي قبّعة في نهرٍ أو تفصيل بذلةٍ سوداء تليقُ بحفلةِ نهاية العالم. كلُّ هذا يحدث لأنّ لا علاقة له بالحظّ أو لعبةٍ من ألعاب القدر المجنونة: يخبو ضوءُ القمر بلا سببٍ، حتى وهو في طور الاكتمال، وأنتَ ما تزال جالساً في العتمة، ترفع عينيك إلى السماء لتشير إلى نجمةٍ دون أخرى. تشيرُ إلى صخرةٍ منسيّة وبعيدة خارج حساب المنجّمين، رغم يقينكَ من لا جدوى النّظرِ الطويل إلى جمرةٍ بائسة، لن يشعَّ نورُها الخاطف إلّا لينطفئ في المهد.

* المغرب