في مجموعتها القصصية «يوم لبست وجه خالتي الغريبة» (دار آثار للنشر)، تنغمس القاصة سلوى زكزك في لذة الكتابة عن الشخصيات المهمشة في الحياة عبر عين تلتقط حيازات الهامش الإنساني المفتوح على اليومي المعاش في حياة هذه الشخصيات، فهي ترصد أعداداً كبيرة من حيز الهامش لتدفع به إلى واجهة الحياة المختلفة نوعياً عن الاعتيادي. إذ تقدّم نماذج من السلوك البشري العشوائي الحائر في اختيار البديل الأفضل للوصول إلى نمط قادر على إيجاد لحظات سعادة حتى في الطبخ وسط حقول من العتمة والظل في الواقع السوري ما بعد 2011. ومن أوائل شخصيات الهامش تلك المرأة في قصة «التابوت المصدف» النازحة من مناطق القصف والقتال لتعيش في مستودع للصناديق حيث ترتب مقتنياتها في الصندوق البني «بمفتاح خاص، أخبئه في صدري، صندوق تحوّل لخزانة خاصة بي لمجرد أنه الصندوق الوحيد المزود بقفل ومفتاح، خزنة لمقتنياتي الثمينة وعديمة القيمة في الوقت عينه، ورقة الطابو لبيتي الذي هجرته مرغمة، مفتاح البيت، صور الأولاد الذين ابتلعتهم البلدان الغربية وصورة أبي الذي خرج من بيته ولم نعرف عنه شيئاً حتى الآن».وفي قصة «الثامنة بتوقيت المدينة» تكتب عن سبع شخصيات مهمشة في قصة واحدة أبرزها شخصية أحمد، بائع عبوات الماء أمام القصر العدلي في دمشق
«صوت بعيد يقترب، بلدية، يهرب الجميع، حاملاً شوادر بضاعته على كتفيه، مخفقاً في جمع كل مكونات بسطته، مسقطاً لبعضها على الطريق هدية مجانية لعابرين بعيون يقظة وأيد خفيفة. بلدية، بلدية وأحمد واقف يرتعش، لا قدرة له على حمل الإناء المثقل بالعبوات وبقالب الثلج الكبير، يمر شرطي البلدية، يحمل بيده عبوتي ماء بارد يصفع أحمد صفعة خفيفة ويقول له: (خلي معلمك يحاكيني)».


ومن أمتع شخصيات الهامش التي تقدمها زكزك في قصة «جنازات للفرجة» هي الشخصيات النسائية «أم الياس، أم موسى، أم موريس، أم زكي، وشاب يلصق أوراق النعوات على جدران الحي»، حيث تقوم أم زكي بقراءة النعوة حرفاً حرفاً «لا بل تلاوتها بقدسية مع التركيز على اسم الفقيد واسم والديه وزوجته واسم كل العائلات المرتبطة به علها تتعرف إلى علامة ما تربطها بالفقيد، لادّعاء قرابة أو نسب يربط بينهما، فتذرف دموع المعرفة، دموعاً حقيقية على قريب رحل مجرد غريب احتل نبأ وفاته جزءاً من جدران بيتها».
ترتبط شخصيات الهامش في قصص سلوى زكزك بالحياة عن طريق المتابعة الحثيثة للتفاصيل الخاصة بكل شخصية من الشخصيات التي يجمعها همّ واحد أو حالة عامة واحدة، خصيصاً في آليات التعبير عن هذه الحالات في زمن الحرب، فالهامش وشخصياته حاضران في أكثر من زاوية عبر اختيار نماذج إنسانية من هذا الهامش.
وتمتاز قصصها بالغرائبية، إذ تعرض في «فائض عن الحاجة» موضوع الإجهاض للسيدة الحامل لطفلها من دون زواج رسمي، وتتعاطف أختها معها، فتبحث عن حبوب الإجهاض في الصيدليات، وتوضح علاقة أختها بالإنسان التي ترتبط به قائلة «وإنما تذرعت بذلك لتجهض شقيقتها الحامل، والتي تواعد حبيباً لها يشترط علاقة كاملة ولا يريد الزواج بها لأنه متزوج وأب لثلاثة أطفال، تمنت لو كان بإمكانها القول لزوجة أخيها بأنها كانت تعرف بأن الدواء ليس لها، وبأن زوجة أخيها استخدمتها طعماً لتغضّ الطرف عن شقيقتها وعن أية شبهة قد تلحق بها». وفي قصة «هدوء نسبي»، نجد شخصية سميرة التي غادرت دمشق نحو قريتها، وعادت إلى سوق جرمانا في زيارة ليومين. ومع وجودها في السوق، تسقط القذائف، وتقع الإصابات والضحايا، وتعود الحالة الطبيعية للسوق ما بين قذيفة وأخرى، فالرغبة الداخلية الكامنة عند سميرة في الاستمتاع بالحالة الوهمية بعدم وجود أو قطع حالة المتعة في دمشق، واستعادة حالتها الماضوية لأن العودة إلى دمشق بعيدة أو مستحيلة «يرن جوالها ليسألها زوجها عن مكان وجودها؟ تقول له إنها في بيت الجارة، يعلمها بأن قذيفة سقطت في السوق، فتطمئنه بأنها وقعت بعيدة جداً عن البيت، وتواصل التسوق مستجيبة للكذبة الواهمة التي أقنعت زوجها، فاطمأن وأنهى المكالمة، لكن التشنج يئن في عضلاتها، وتبالغ في أعداد مشترياتها بمضاعفة عدد كل ما ورد ذكره في قوائمها السحرية معلنة لنفسها بأن قدوماً آخر لدمشق قد يكون مستحيلاً أو على الأقل بعيداً جداً جداً».
عين تلتقط حيازات الهامش الإنساني المفتوح على اليومي المعاش


وفي قصة «مجرد اشتياق»، تقدم شخصية امرأة في السبعين تعيش حالة الوحدة، يصدمها سائق من حي الشاغور حيث عاشت طفولتها ومراهقتها وذكرياتها، وقصص الفتيات في الحي. وبذلك ابتعدت عن وحدتها مدة زمنية فتحت أفق الحياة أمامها من خلال زيارتها حيّ الشاغور عبر السائق. لكن الغرائبية تكمن قرارها النهائي حيث السائق «نجدة» في اليوم الأخير لعمله في الحي الموحش حيث تسكن السيدة «رمزية»، رنّ جرس باب البيت ليودع رمزية، لم تجب. عاود رن الجرس مراراً وتكراراً، ضرب بيده على الباب الخشبي، دونما أي ردّ، قلق جداً واعتراه خوف مبهم. نادى الناطور، وكان لديه الجواب: «رمزية في دار المسنين منذ مساء الأمس..».
إنّ الغرائبية القصصية في مجموعة سلوى زكزك، تنتمي إلى واقع سوري غرائبي بدوره ما بعد2011، حيث يجري الإمساك به عبر كاميرا سردية تسلط الضوء على إنسانية البشر رغم واقع الحرب الأهلية المدمرة التي ضخمت الأنانية، وابتعدت عن ما كان يقال من غيرية وتفانٍ.
تقطف القاصة بنية سردية من الرهيف المتخيّل ما يظهر للعين الفاحصة من جمالية، ولا تغوص في أعماق التربة البنائية للشخصية، إذ تلامسها وتعرض لمشاكلها ذات الخصوصية الإنسانية الواضحة بقدرتها على التقاط شخوص قصصها من قارعة الطريق، لتصبح ذات موقع سردي قصصي خصيصاً مع تسيد الغرائبية في حياة السوريين في كل البقاع التي حلوا بها. وهذا ما ينهض على مستوى الوقائع، كأن ما يجري قصّه واقع زمني توالت وفقه الأحداث، ثم جاءت زكزك فقصّت الأحداث وفق ترتيب آخر.