«عزلة مكتظّة بالوحدة»! ما أحوجنا في هذا الوقت المستقطع من أسباب الحجر إلى عنوان مثير كهذا، كأنه مكتوب من أجل أن نتأمل ما نحن فيه اليوم، وإن اختلفت مقاصد صاحبه. هكذا أرشدنا محمد مظلوم إلى بوب كوفمان (1925- 1986)، في ترجمة هي الأولى لهذا الشاعر الرجيم إلى لغة الضاد (منشورات الجمل). شاعر أميركي أسود نُبذ طويلاً من أنطولوجيات الشعر الأميركي، لأسباب عنصرية في المقام الأول، لكن هذا البحّار القديم لم يأبه لهذا الإهمال المتعمّد، فهو من كان ينأى بنفسه عن الحشود. لطالما نفر من الآخرين، مكتفياً بوحدته، قبل أن يقتحم شوارع سان فرانسيسكو مدجّجاً بمعجم مثقل بالهجاء والبذاءة وأسباب التسكّع، كحصيلة لثقافات ومعتقدات وطقوس متعددة كان ينتمي إليها.تكمن أهمية بوب كوفمان إذاً، في تلك الدمغة الواضحة التي تركها على الشعر الأميركي في خمسينيات القرن المنصرم كواحد من مؤسسي «جيل البِيت» (Beat Generation) بصحبة جاك كيرواك وألن غينسبرغ وآخرين... الجيل الذي عمل على تمجيد الهامشيين والمنبوذين واللغة الشوارعية والتمرّد على كلّ ما هو مستقر. امتياز كوفمان، على نحو خاص، يتجلى في الشفاهية وإعلاء مقام الصوت، سواء في نبرة القاع أم الشطح الصوفي، من دون أن يعتني بتحرير قصائده، كأن لحظة تدفّق الكلمات هي الملاذ والنشوة أكثر من تدوينها. كما لو أننا إزاء ارتجالات من موسيقى الجاز أو البلوز، فهذا الشاعر، كما يقول عنه فرلنغيتي: «عدّاء مسافات طويلة مندفع يرتجل ترانيم استدعاء شامل، وحيداً في عالم من القوارض القطبية».


عمل كوفمان على تثوير اللغة الإنكليزية، عن طريق تطعيمها بمفردات زنجية ولهجة رجل الشارع. وتالياً، فإن ما يكتبه يحتاج إلى تفكيك لشيفراته السريّة التي تنبعث بتأثير هلوسات الماريجوانا وبلاغة الغيبوبة. هكذا، يلتقي ويفترق مع غيسنبرغ وكيرواك لجهة استثمار مناخات الجاز من جهة، ونيرفانا الرفض للثقافة الأميركية في بعدها الإقصائي، مازجاً مفردات الثقافة الشرقية وروح العبث والمراوغة اللغوية بقصد إثارة الفوضى والتوغل في متاهة معجمه الخاص بنوع من «التورية والمواربة المحسوبة»، بالإضافة إلى «ولعه بالجناس الصوتي، واللفظي، والمعنى المزدوج للعبارة».
من هنا تأتي زنوجته بوصفها خندقاً مضاداً وفخّاً لاصطياد الآخر نحو سريالية عصية على الفهم من جهة، ومباغتة في دلالاتها من جهةٍ ثانية. في «أغنية الزرافة المكسورة»، سنقع على صورة شعرية مفارقة بخشونتها وغرابتها: «لقد عاشرتُ تماسيح بذيئةً على ضفاف أنهار خليعة»، و«أردت تأليف قدّاس عظيم، لكني لا أجيد الركوع كما ينبغي» يقول. دمغة اللون الأسود منحته شجاعة الانتقام والانتصار للضحايا بنبرة متهكّمة ومتعالية شعرياً، فيما كان يغرق حياتياً إلى درجة الصمت التام. عشر سنوات من الصمت احتجاجاً على «اغتيال الأمل». فبعد حادثة اغتيال جون كيندي، رأى أن الأمور ذاهبة إلى مدى خطير، وبدا لفرط عصبيته «كمن يكتب في صمته». نقطة تحوّل أخرى أرغمته على الكتابة مجدّداً، بعد انسحاب الجيش الأميركي من فيتنام 1973، فأتت قصيدته «كل تلك السفن التي لم تبحر» بمثابة عصيان آخر، وهتك لمنظومة العنف الأميركية، لينسحب بعد قليل من الحياة العامة نحو طراز آخر من العيش يتمثّل في التشرّد من مكانٍ إلى آخر، ومن حانةٍ إلى أخرى، ومن سجنٍ إلى آخر، مستبدلاً الكتابة بهستيريا فوضية بلا ضفاف كأفضل تعبير عن سلوكيات جيل «البِيت». أن تعتلي طاولة في حانة، أو سيارة في الشارع وتعلن نفير الكلمات وجنونها، من دون احتشام أو خشية «دعونا نقلّد حصان طروادة هوميروس على أسرّة مبغى «دلفي» المحاطة بالبحر/ دعونا ننشد قدّاساً جنائزياً محرّماً على سبت إعدام الباباوات الذين يتهيّجون ثم يصلّون».
جموح لغوي متوتر يواكب فوضى الشاعر الذي لم يعبأ يوماً بمصير نصوصه مكتفياً برعشة اللحظة، لكن هذا المزاج الغرائبي، سينطوي من جهةٍ أخرى على لعب شعري مدهش يزعزع ما هو مستقر، فهناك «سردين ذهبي يسبح في رأسي». صمت وسجون وعنصرية وتشرّد في أميركا، فيما سيعبر صوته إلى أوروبا بوصفه «رامبو أميركياً» أكثر صخباً وشراسة لغوية (إنهم يخفون أنيابنا «مشابك» في حمّالات الجوارب النسائية).
أحد مؤسسي جيل الـ beat طعّم الإنكليزية بمفردات زنجية ولهجة رجل الشارع


يعترف محمد مظلوم بصعوبة ترجمة بوب كوفمان، لكننا سنقع على نصّ عربي ناصع، يكشف عن كنوز بلاغية مخبوءة ومباغتة، تتسلل وفقاً لاندفاعات صرخات الاحتجاج ضد الاضطهاد وشحنها بتجريبية عالية تنهل من سريالية خاصة به محمولة على نبرة يسارية ساخطة تؤكّد عزلة الشاعر «الغريب المجنون الرجيم المنبوذ» في مواجهة تُهم لا تحصى، ما استدعى سجنه 35 مرّة، في غضون سنة ونصف السنة، لأسباب عنصرية أولاً. إلا أنه لم يتخلَّ عن طباعه الشوارعية أو بوذيته الشرقية، وفقاً لاتجاه بوصلة الثمالة في «الغابة البلاستيكية المظلمة» التي تدعى أميركا، حيث «الأدخنة المتصاعدة من محارق البشر الأحياء». ما بين قصيدة «عواء» لألن غينسبرغ، وعزلة بوب كوفمان المكتظّة بالوحدة، تبدو المسافة شاسعة بخصوص النبرة الشعرية ونسبة البذاءة والعربدة والخسارات. يهتف الأول «أميركا لقد منحتك كل شيء وها أنا الآن لا شيء/ أميركا، دولاران وسبعة وعشرون سنتيمات،/ 17 يناير وستّة وخمسون وتسعمئة وألف/ أنا لا أستطيع أن أحافظ على رأيي الخاص/ أميركا متى سننهي الحرب على الإنسانية؟/ انكحي نفسك بقنبلتك الذرية!/ أنا لا أشعر أنني بحالة جيدة/ لا تزعجيني/ لن أكتب قصيدتي حتى يستقيم الرأي/ أميركا متى ستصبحين بريئة؟/ متى ستخلعين ملابسك؟/ متى ستنظرين إلى نفسك من خلال اللحد؟». فيما يكتب الأخير في «نيسان الثاني» هجاءً طويلاً للرقابة والمنع ورضاعة الهواء الفاسد، و«الهيكل العظمي للزمن». وهذا ما جعل فرلنغيتي يقول: «سيأتي يوم يجري فيه الاعتراف بأن هذا النصّ هو أحد مصادر التنوير الأساسية التي غيّرت الشعر الأميركي»، كما سنستدعي عبارة الشاعر المبكّرة «حين أموت لن أبقى ميتاً».