سنقترف مجازفةً محفوفةً بالمخاطر لو انزلقنا إلى مماهاة الكاتب بشخوصه. يصدق هذا على معظم الكتّاب، ولكنّه يصدق بشدّة على أنطون بافلوفتش تشيخوف (1860 ــــ 1904). لدينا ما يقارب 600 قصة، وما يقارب 20 مسرحيّة مختلفة الطول تضمّ آلاف الشخصيّات، ومن الطبيعيّ أن نجد شخصيّات عديدة تتشابه مع شخصيّته بهذا القدر أو ذاك، ولكنّ هذا لن يفيد تشيخوف ولن يفيدنا. ليس لنا إلّا اللجوء إلى المصادر التي تناولت سيرته وحياته، وهي مصادر شحيحة بكلّ أسف، لكنّها تقدّم شخصيّة متناغمة على اختلاف كتّابها ومدى قربهم من تشيخوف: طيّب، متواضع، لطيف، ذكيّ، ساخر، غاضب بحقّ حينما يستلزم الأمر، وصموت حينما يستلزم الأمر. تزوّج في سنّ متأخّرة نسبياً عام 1901 بالممثلة المسرحيّة أولغا كنيبر زواجاً من دون بهرجة ومن دون حبّ عاصف، إذ واصل قضاء سنوات مرضه الأخيرة في يالطا فيما واصلت حياتها المهنيّة في مسارح موسكو إلى حين وفاته عام 1904. كان هذا التفصيل الأخير محلّ جدالٍ دائم بشأن علاقات تشيخوف النسائيّة: هل واصل علاقاته العابرة التي كان مولعاً بها قبل زواجه أم استكان لعزلته من دون علاقات؟ ليس لدينا أدلّة حاسمة، باستثناء أمرين: قصّته العظيمة «السيّدة صاحبة الكلب» التي ماهى نقّاد كثيرون بين بطلها غوروف وكاتبها تشيخوف، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ القصة نُشرت عام 1899 قبل عامين من زواجه بصرف النظر عن مدى تشابه الشخصيّتين؛ ومذكّرات الكاتبة الروسيّة ليديا أفيلوفا «تشيخوف في حياتي» التي صدرت أخيراً عن «دار فواصل» بترجمة نوفل نيّوف.

تتمحور المذكّرات حول علاقة الحب التي عاشتها أفيلوفا مع تشيخوف، أو لعلها علاقة حب عاشاها معاً طوال عشر سنوات؟ تؤكّد أفيلوفا على الاحتمال الثاني بطبيعة الحال، ولكنّها واجهت وستواجه مخالفين كثيرين يعتقدون أنّها تخيّلتْ أو بالغت في أحداث كثيرة بحيث «أرغمت» تشيخوف على أن يكون بطلاً في قصة حبّ لم يعِشها، أو – على الأقل – لم يتعامل معها بكونها قصة حب. كان لدينا عشرات الرسائل المتبادلة بينهما، تخلّصت أفيلوفا من معظمها، وبذا لم يبقَ لدينا إلا رسائل قليلة ليست فيها أدنى حميميّة، ولدينا أقوال أفيلوفا، فقط. تشيخوف عاجز عن الرد بطبيعة الحال لأنّ المذكّرات نُشرت بعد وفاته، ولم يُعثَر على رسائل شخصيّة بين أوراقه تضمّ ما يتجاوز علاقة معرفة لا تصل إلى مرحلة صداقة عميقة. كيف نقرأ الكتاب إذن؟ لدينا احتمالان: إما أن نقرأه بوصفه كتاباً مُتخيَّلاً، وبذا سنضمن قراءة شديدة الإمتاع، والتقاطات ذكيّة من المؤلّفة لمظاهر بعينها من مظاهر شخصيّة تشيخوف؛ وإما أن نتعامل معه بوصفه شهادة واقعيّة صادقة، ولا بدّ لنا حينئذ من مقارنة المعلومات التي فيه مع المعلومات الني نعرفها من المصادر الأخرى التي تضمّ أدلّة أكثر وأصدق، ولكن لن تكون النتيجة لصالح المؤلّفة قطعاً.
تنقسم المذكّرات إلى قسمين يحضر تشيخوف في القسم الأول منها بوصفه الكاتب المُرشِد المتواضع أكثر من أيّ صفة أخرى. لا نجد في الحوارات أو الرسائل أو اليوميّات ما هو أكثر من نصائح بشأن الكتابة يقدّمها الكاتب الأكثر خبرة للكاتبة التي تحاول شقّ طريقها. سنجد تلك العبارات التشيخوفيّة الثاقبة حين يتحدث عن أنواع الكتّاب وعن الزاوية التي يفضّل أن يرى الحياة والكتابة منها، وسنجد نصائح لا يمكن التشكيك بمدى تشيخوفيّتها أبداً، كما حين يشير إلى أنّ على الكاتبة ألّا تكتب «وإنّما أن تطرّز الورقة بحيث يكون العمل شديد الدقة والبطء». ولكن حين ننتقل إلى الصعيد الشخصيّ وإلى المحاورات الحميمة التي كتبتها أفيلوفا، لن يكون بوسعنا الركون إلى أقوالها وحدها لأنّها تكتب عن تشيخوف مختلف عن ذاك الذي نعرفه. يبدو تشيخوف أفيلوفا مستهتراً، مزاجياً، وينطق بعبارات حمقاء متناقضة لا تشبه عباراته الدقيقة التي عرفناها من مصادر أخرى، تلك العبارات التي لا فرق فيها بين النطق وبين الكتابة. عبارات مُصاغة ببراعة من عقلّ ألمعيّ حتى حين يخاطب أبسط الأشخاص. أما في القسم الثاني الأجمل، فنجد أن تشيخوف الكاتب قد تلاشى تقريباً وحلّ محلّه تشيخوف العاشق كما تصرّ أفيلوفا، مع أنّ الرسائل المرفقة بالمذكّرات لا تضمّ ما يومئ إلى هذا العشق، بل لا تعدو كونها رسائل عاديّة بتوقيع شبه رسمي. وأخيراً، نقع على فصل مفرط الرقة في علاقة جميلة حين توصي أفيلوفا على تعليقة ذهبيّة على شكل كتاب حفرت على وجهها الأول اسم تشيخوف وعنوان أعماله، وعلى الوجه الآخر رسالة مرمّزة برقم صفحة من أعمال تشيخوف، تضم العبارة التي تودّ أفيلوفا إيصالها إلى تشيخوف: «إذا ما احتجتِ يوماً إلى حياتي تعالي وخذيها».
نجد صورة مختلفة عن تشيخوف في هذه المذكّرات

وسنجد هذه العبارة ذاتها على ميداليّة مماثلة مع أرقام صفحات مختلفة على لسان تريغورِنْ في مسرحيّة «النورس». لحظة الاكتشاف وانغلاق دائرة الترميزات الشفيفة لحظة مدهشة لو كانت قد حدثت حقاً، ولكنْ – مرة أخرى – لا سبيل إلى التأكد لأنّ أفيلوفا تشير إلى أنّ الأرقام الجديدة التي وردت في المسرحيّة تشير إلى عبارة أخرى تخص الحفلات التنكريّة من أحد أعمال أفيلوفا، بما أنّها حضرت مع تشيخوف حفلةً تنكّرية قبل فترة وجيزة من عرض «النورس». لعل هذا ليس مهماً، سواء صحّت رواية أفيلوفا أم لا، إذ ستبقى هي وروايتها لهذه الحادثة مرتبطةً بالمسرحيّة كلّما قرأنا أو شاهدنا ذلك المشهد، وهو أحد أجمل مشاهد المسرحيّة، على الأخص حين نتذكّر إشارات نقديّة عديدة تقول إنّ تشيخوف رسم صورة ساخرة من نفسه في شخصيّة تريغورِنْ.
يقول غوركي في عبارته الشهيرة عن تشيخوف: «يُخيَّل إليّ أنّ كلَّ من يكون في حضرة تشيخوف يشعر برغبةٍ لاواعيةٍ في أن يكون أبسط، وأصدق، وأقرب إلى حقيقته». لعلّ أفيلوفا هي الاستثناء لهذه القاعدة الغوركيّة، أو لعلّها لم تُحسن الاستفادة من درس تشيخوف، إذ لا تبدو أبسط وأقرب إلى حقيقتها، ولا نعلم ما إذا كانت أصدق. لا نجد تشيخوف في هذه المذكّرات، بل نجد صورة مختلفة له. ربما كانت صورة أجمل بالنسبة إلى أفيلوفا، ولكنّها ليست صورة تشيخوف. ربما تكمن المفارقة في أنّ أكثر أعمال أفيلوفا تخييلاً هو مذكّراتها التي تروي حكاية أحد أعظم من رسم الواقع من دون أن يتخلّى عن براعة التخييل. ولعل هذا هو الدرس الذي استمدّته أفيلوفا من تشيخوف وأتقنته: الواقع لا يهم، اكتب حياةً أقسى من الواقع وأبهى منه في آن.