يحتفي حسن داوود (1950) في روايته الجديدة «نساء وفواكه وآراء» (دار نوفل-٢٠٢٠) بما يشبه اليوبيل الفضي لذكريات كلية التربية في الجامعة اللبنانية. كما كانت العاصمة اللبنانية في فترة الستينات من القرن المنصرم مختبراً فعلياً للحداثة الشعرية والأدبية والفنية، كانت كلية التربية النواة الأساسية لهذا المختبر: جيل كامل في أحضان الكلية يبتكر السياسة والجملة السياسية عند كلّ المفارق، كأنّ ذلك الجيل بشعرائه وطلابه وناشطيه كان يغدو مثقفاً من حيث لا يحتسب، لتأتي لغته وكلامه وصوَره من هذا المكان الغامض الذي إن اتّضح أكثر فأكثر فهو الثقافة. كان المثقفون أصحاب لغات. ومن قلب هذه اللغة تنبثق الشعارات والعناوين ومنها عنوان رواية صاحب «بناية ماتيلد» الجديدة. جيل كلية التربية كان يتقمّص هذه اللغة التي تنتقل كالعدوى: كانت السياسة لعبته الأثيرة، وبخمسة مثقفين فعليين، كان ذلك الجيل قادراً على صنع تنظيم سياسي، كأنه جيل الألسنة الماهرة وصناعة السياسة. لكن السياسة بوجهها الآخر القذر من قتل وسلب وخطف على الهوية، كانت تأبى إلّا أن تصل إلى سور الكلية، بنقيضها الكامل لأحلام أولئك المثقفين، لتقول بأنّ ما عاشوه كان أقرب إلى الوهم الجميل. «نساء وفواكه وآراء» هي رواية ذلك الزمن الجميل الحاضر في نفوس من عاشوه، إذ أنهم «لم يتوقّفوا عن الشعور بكونهم طُردوا منه طرداً. ذاك أنهم، حتى وهم بعد فيه، كانوا مدركين بأنهم لن يذهبوا إلى مكان مماثل عند خروجهم منه». حول الرواية التي تجمع إلى حميمية الذكريات، أسلوب صاحب «في إثر غيمة» الممتع في سرديته وزخرفة تفاصيله، كان هذا الحوار في الأدب والرواية والكتابة والذكريات
كانت السياسة لهواً في البداية، لعبة ثقافية لكنّها تحولت بعد ذلك إلى ما صارت إليه (مروان طحطح)

تتركز الرواية بأحداثها وامتداد هذه الأحداث حول كلية التربية عام ١٩٦٨، في «زمن لبنان الجميل»، هل كان الجو الثقافي والسياسي في تلك الفترة بأفكاره التقدمية والثورية أشبه بانتفاضة ٦٨ الباريسية ولو على نطاق محلّي؟
ـــ هي خمسون سنة مرّت على ما عشناه في كلية التربية. ذلك، لبُعده، أقرب إلى أن يكون تاريخاً، مما هو تذكّر لفترة سابقة من وقائع عيش شخصي. ما يجعل زمن كلية التربية حاضراً في نفوس من عاشوه أنهم لم يتوقّفوا عن الشعور بكونهم طُردوا منه طرداً. حتى وهم بعد فيه، كانوا مدركين بأنهم لن يذهبوا إلى مكان مماثل عند خروجهم منه. في ذلك الحين، ونحن بعد في السنة الأولى من الكلية، عَيّن محمد صافي الساعة العاشرة من يوم 14 شباط (فبراير) لسنة 1968 بأنها الذروة التي بلغها زمن لبنان الجميل. «إنه يبالغ»، كان زملاؤه يقولون غير مستهجنين كفاية من إطلاق زميلهم لهذا التعيين. لكن ما قاله محمد صافي كان صائباً تقريباً، وفي محله، طالما أن الطلاب الألف ـــ وهذا كان عدد طلاب الكلية آنذاك ـــ قد صدّقوا ذلك طيلة السنوات، بل طيلة العقود التي أعقبت. لم يقفوا عند دقّة التوقيت بالطبع، بل قصدوا الزمن الذي أحاط به. ما نحلم به الآن للبنان، كان عيشاً فعلياً لهؤلاء الألف. بالطبع يصعب أن نرسم لوحة مكتملة التفاصيل لذاك العالم. حتى الرواية لم تستطع أن تخبّر عن أكثر من مجموعة من الشبان انعقدت بينهم صداقة قامت على محبّتهم للشعر. وهذا ما يمكنه أن يدفع آخرين إلى القول بأن الرواية لا تحكي إلّا عن هؤلاء القليلين، وأن آخرين كثيرين ممن عاشوا ذلك الزمن يستطيعون هم أيضاً أن يكتبوا تاريخهم الخاص عن ذلك. لأولئك الطلاب الآتين من مناطق لبنان المختلفة، كما من طبقاته وثقافاته، كان يمكن لما يحدث بعيداً عنهم، هناك في فرنسا، أن يصل سريعاً إليهم. من الطلاب مَن كانت ثقافتهم فرنسية أساساً، وهم كانوا عارفين بتحوّلات تلك الثقافة. وهؤلاء اختلطوا بزملاء لهم جاؤوا من ثقافات أخرى، كما بمنتسبين إلى تيارات سياسية وثقافية قادمة من تجارب عربية وشرق أوروبية وآسيوية متنوعة. وغالباً ما كانت تختلط الأمور في وعي الفرد الواحد من هؤلاء الطلاب، فهو وجودي، حيث كان للوجودية حضورها المتأخر عندنا، وهو ماركسي لينيني، هو فوضوي، كما له في خياراته حول ما يحدث في لبنان تطلعات أخرى متخالفة.

«بالتفاصيل ذاتها ما زالوا يروون كيف رحت أقود صالح، وأنا جالس على مقعدي في الساحة المشمسة، ليحصل على تلك القبلة من كاتيا، وقد أشاعوا بين آخرين كثيرين كيف أنني قلت عن تلك القبلة أنها الذروة التي بلغها لبنان» هكذا يقول محمد صافي، أحد أبطال الرواية. هل التاريخ شخصي إلى هذا الحد؟ وهل النسخ الشخصية من التاريخ أفضل من المرويات الجماعية التي لا تحوز الإجماع في «بيت بمنازل كثيرة» مثل لبنان؟
ـــــ يمكن أن تكون الرواية سيرة لأشخاص معدودين جمع بينهم حبّهم للأدب وليس سيرة كاملة لحياة الكلية. هؤلاء الخمسة أو الستة كانوا قد جاؤوا، في أغلبهم، من القرى والبلدات التي حصّلوا فيها تعليمهم ما قبل الجامعي. وهم، لذلك، أتيح لهم أن ينخرطوا في عالم الكلية الأكثر تنوعاً واختلاطاً وثراء في كل ما يتطلّبه شبان يميلون إلى توسيع آفاق معرفتهم. وهم كانوا شديدي النهم تجاه كل ما يحيط بهم. محمد صافي، وهو قائدهم، كان يعدّد ما يدهشه في هذا العالم، فيظلّ يردّد: «عالم جميل، نساء وفواكه وآراء»، وهذا الفاصل الثاني من الجملة تحوّل إلى أن يكون عنوان الرواية. هم مجموعة إذن، شلة أصدقاء عُرفت في الكلية باسم «شلّة الشعرا». في القسم الأول من الرواية، كانوا متداخلين ومجتمعين في الوقائع التي تصفهم وتروى عنهم، لكن في الأجزاء التي تلت، فرّقت الرواية بينهم فحوّلتهم إلى أفراد. صارت لكل منهم حياته وسيرته الخاصّة، لينتهي كل فرد منهم على حدة، إلى اكتشاف أن الحياة ذهبت في اتجاهات ليست هي التي كانت قد وعدت بها. في سياقها، كذّبت الرواية عالمها الجميل، بالتدريج، وخطوة بعد خطوة. تلك البطولات السهلة التي كانت تتحقّق للأكثر تميّزاً بين أولئك الشبّان، استُبدل بها الانكسار الذي تمادى مع تقادم السنوات. وهذا التحوّل بدأت طلائعه حين كان الزمن الجميل ما زال في أوجه. أي إنه انقصف في وقت ما كان جارياً الاحتفال به. ربما كان الخراب الذي توالى حتمياً. أو ربما كان الزمن الجميل خطأ أو شذوذاً. حتى هم، أولئك الذين تفرّقت مصائرهم في ما بعد، وتكسّرت، يرون أن زمنهم الجميل ما كان يمكن له أن يستمرّ، فهو لا يعدو كونه انعطافة إلى طريق فرعية جميلة، لكنها مقفلة عند نهايتها.

«الرصاصة التي فضّت بكارة زهير»، تقول في أحد فصول الرواية، واصفاً الرصاصة التي أطلقت على خد زميله عبد الهادي ولم تقتله. هل كنتم تعون في تلك الفترة أنكم «تلعبون في ملعب خطر»، وأن الحياة بقسوتها ونذر خرابها يمكن أن تجري على شاكلة أخرى خارج أسوار الكلية؟
ـــ كانت السياسة لهواً في البداية، لعبة ثقافية لكنها تحوّلت بعد ذلك إلى ما صارت إليه، ابتداء من تاريخ يمكن الرجوع به إلى سنوات ما قبل 1975. في الرواية إشارة إلى بعض تلك الحوادث البادئة، كان أولها قدوم مسلّحين من خارج الكلية، أي من أولئك الذين صاروا يُعرفون في ما بعد باسم ميليشيات، وأطلقوا رصاصة على وجه أحد الطلاب، ربما بهدف قتله. كان ذلك مفاجئاً. وفي الرواية كتبتُ أن تلك الرصاصة التي اخترقت وجه عبد الهادي، ولنفترض أن هذا هو اسمه، كانت رصاصة زهير الأولى (وهو واحد من شلّة الشعرا). كان زهير حاضراً، بالصدفة البحتة، لحظة اختراق الرصاصة لخدّ عبد الهادي. تلك كانت صدمته الخاصة، أو رصاصته الأولى في الحرب التي ستطول. رصاصة حسان، وهو شخصية أخرى من شخصيات المجموعة أو الشلة، كانت تلك التي أصابت ناطور بنايته فقتلته. الآخرون أيضاً كانت لهم صدماتهم الأولى أو رصاصاتهم الأولى. أقصد تلك التي، وهم في لحظة تلقيها، كانوا يشعرون بأنها أصابت شيئاً فيهم.
لا أعرف إن كان طلاب الكلية غافلين عما يحضّر لهم في الخارج. لكن، حين بدأت الحرب، أمكن لعديدين منهم أن يتكيّفوا معها، بل أن يلتحقوا بها. في أحد فصول الرواية، وصف لموقع حربي في إحدى ضواحي بيروت يظهر فيه طلاب (من الكلية) محاربون. كانوا، وهم في ذاك الموقع الخطر، متّخذين هيئات شخصيات محاربة مستلة من روايات وأفلام، كما من صور فوتوغرافية لقادة من الثورة الروسية أو الثورة الكوبية.... لكن الموجع سيحدث لاحقاً، في ما خص شخصيات الرواية، وطيلة زمن تخطّى نهاية الحرب.

يتردد يوسف بين البندقية والغيتار مرتين. في الأولى ينحاز للغيتار على بندقية الصيد، وفي الثانية لبندقية الحرب على الغيتار، وينغمس في الحرب بتفاصيلها القذرة. ألم تدفع السياسة بيوسف دفعاً إلى الحرب؟ وهل تدينه ليدافع عن نفسه في أحد الفصول الأخيرة بمونولوغ مطوّل حول الحرب؟
ـــ يوسف، الطالب، ذهب في الحرب إلى آخرها، أقصد صارت الحرب تمثّل كل طموحه. هو، في الرواية مختلف عن الآخرين حيث، في ظني، أنه يمكن أن ينفرد وحده ببطولة رواية، لا أن يكون إحدى شخصياتها. حين جاء إلى الكلية، كان يمكن أن يتحوّل إلى أي شيء. أن يصير فناناً، أو مثقفاً، أو أن يكون قوياً لينتصر على خجله. لم تطلق الرواية على مسيرته حكماً من أي نوع، إذ أنها ارتبكت هي الأخرى في متابعة المراحل التي كان يتنقّل بينها. ولأضف إلى ذلك أن من ضمّتهم الرواية لم يكونوا نماذج متفرّقة جُمعوا لهدف رسم صورة عريضة لحياة الكلية. ففي ظني أن أكثرهم هم أبطال كاملون، بالمعنى الروائي أقصد، مثقلون بأحلامهم، التي أُجهض أكثرها، وبوعيهم الحاد بذواتهم.

محمد صافي الشاعر شخصية إشكالية في الرواية، من مقدرته على اختراع الكلام وعنوان الرواية أحد اختراعاته، إلى حساسيته العالية تجاه الأشياء برمتها، وانقسامه بين عالمين: الماضي والحاضر. لماذا انكسر محمد صافي في الرواية، وكيف «انقطع الخيط» بين حاضره وماضيه؟ وهل الحياة بشكل عام خيبة أمل للشاعر؟
ـــ محمد صافي، الأكثر بطولية وكاريزماتية وقدرة على القيادة، بدا الأكثر تعرّضاً للتقلّبات التي أعقبت سنوات الماضي الجميل. ربما كان تميزه الشخصي وخصوصية نزعته القيادية السببَ في عدم قدرته على التكيّف مع زمن الحرب الجديد. على نحو تدريجي، راح يختبر التعرّض للتكسرات التي يفرضها عليه الخارج. في أحد المشاهد، وهو يقطع الطريق ليصل إلى الرصيف الآخر، أوقفه الرجل المسلّح (رجل الميليشيا)، مستثنياً إياه من بين الشبان الثلاثة الذين كانوا برفقته. أما سبب استثناء محمد صافي وتوقيفه، فتخلّفه عن أن يجعل مشيته متوافقةً مع ما ينبغي أن تكون عليه مشية رجل يتقدّم ماشياً نحو رجل آخر مسلّح. ظلّ مستمراً في الترنم بأغنية عبد الوهاب، وإن برأسه من دون لسانه، وبسبب ذلك ربما لم يُظهر جسمه الخضوع اللازم تهيّباً وخوفاً ممن يقف هناك على الجانب الآخر من الشارع.
مثلما اعتدنا أن نقول إن القصيدة هي كاتبها، لعلّ الرواية هي كذلك، وفي كل ما يكوّنها


فقط تلك الإهانة التي تشبه البصقة من المسلّح كانت كافية لأن تُسقط محمد صافي درجةً أخرى نحو الأسفل. ربما كانت تلك حادثة مرّت، شأن أحداث أخرى مشابهة تعرّض لها محمد صافي لو استطاع أن يتلقى ما يسمعه بالسخرية أو المزاح، وهذا ما راح يقنعه به رفاقه حين صاروا في داخل المصعد.
أيضاً، كان محمد صافي، في توالي انكساراته، يرى كيف أن الحرب بدّلت العناصر التي تقوم عليها المراتب بين البشر. هناك بطولات فقدت أعداد تابعيها، إذ صارت هناك معايير أخرى للنفوذ والقوة. لكنني، مع ذلك، لا أرى أن انكسار شخصية يمكن أن تُرجَع إلى أسباب يمكن تعيينها، وإلا لماذا تُكتب الروايات عن تحوّلات البشر.

تستبدّ النوستالجيا بالراوي حسان، وأثناء بحثه عن «الزمن المفقود» يعثر على «بوليت» المريضة، زميلته السابقة في الكلية. هل النوستالجيا مرض أم أنها الترياق الذي نداوي به الفناء؟
ـــ حسان، وهو الراوي، ما زال متعلّقاً بذلك السحر الذي جلبته طالبات الأدب الفرنسي، الخارجات من المدارس التي يتعذّر على غيرهنّ ارتيادها. في الكلية، سلكت بوليت، وهي واحدة من هؤلاء، طريقاً معاكساً، إذ فتنها عيش القادمين من أوساط فقيرة. في سنوات الكلية، كما في سنوات قليلة تلتها، كان انتقال بوليت إلى تلك الضفة الأخرى مشروعها الأول. لم تحقّق نجاحاً يذكر، أقصد أنها، بعدما أصبحت في العمر الذي يمكن فيه أن تنظر إلى الوراء لترى ماذا حققت، وجدت أنها وحيدة، إذ لا أحد في هذا الحيز الخالي الذي صارت فيه. لا صديقات قدامى ولا أصدقاء جدد.
لن تلبّى نوستالجيا حسان حيال هذا الجنس من النساء. بعد انقضاء كل تلك السنوات، لم يعد لدى بوليت أشياء كثيرة. ليس فقط لأنها باتت مريضة، بل ربّما لأنّ الماضي لم يظل على حاله. تلك الدهشة الأولى بين اثنين قدما من عالمين مختلفين لم تعد مدهشة ومثرية كما كانت. كان التباعد واضحاً في سنوات الكلية، بين الشبان الفقراء والبنات اللواتي مثل بوليت. لكن كانت فاتنة محاولة اجتياز المسافة. الآن لم يعد يدهش حسان من بوليت إلّا أشياء قليلة، كأن تضحك فيما هي تحكي كيف أنها، داخل العلبة الأنيقة التي تحملها بيديها الاثنتين، أبقت نصف قطعة حلوى لم تُكمل أكلها في باتيسري «بول». لم يعد كل منهما، هكذا لمجرّد عامل الاختلاف، ساعياً لقطع الطريق قفزاً للوصول إلى الآخر، ربما لأن الفوارق بين هؤلاء وأولئك لم تعد معالمها واضحة. السبب في ذلك هو أن المواقع انزاحت عن أصولها وقواعدها. حسان نفسه لم يعد يعرف في أيّ موضع هو، لذلك نراه متردّداً كلّ مرة إزاء معاودة الاتصال ببوليت.

لماذا يبدو الراوي متردّداً في خيارات كثيرة، من العمل العسكري إلى العلاقات العاطفية؟ والمصير الذي تنتهي إليه وداد في النقاب وبوليت في الهجرة، هل هو صيرورة عامة لجيل بخيبات كثيرة؟
ـــــ ليس الراوي، وليس الروائي أيضاً. حين نكون في صدد الكتابة عن بشر يضمّهم مكان، نكون مخطئين حين نسبغ عليهم صفات مشتركة يمليها عليهم وجودهم في كنفه. ما ينبغي التركيز على تبيانه هو اختلاف هؤلاء بعضهم عن بعض، كما اختلاف أحدهم عن الآخر. في الرواية، لم أكن موزّعاً بين العمل العسكري والعلاقات العاطفية، بل «هم» من كانوا متفرّقين هكذا. بل ربما ظهر هذا التوزّع، أو الانقسام، في شخصية يوسف نفسه، بحسب ما هو مفصّل أعلاه.
ولنضف إلى ذلك أن قطبَي العسكرة والعاطفية ليسا المعطيين الوحيدين المتاحين للاختيار بينهما. ربّما أوحى بذلك أن هناك شخصيات تكيّفت مع الحرب واشتركت فيها بينما شخصيات أخرى، وبينها أفراد «شلة الشعرا» جميعاً، بقيت حيث كانت في الزمن الجميل الآفل. لكن حتى هؤلاء الأخيرون، ذهب كلّ في اتجاه. فيما كان محمد صافي جالساً في الاحتفال الذي أقيم لتكريمه بمناسبة موته الوشيك، كان حسان الحاضر في الاحتفال يسترق النظر إليه متردّداً إن كان عليه أن يصافحه أو حتى يرفع رأسه قليلاً ليرى محمد صافي أنه أتى لوداعه. ثم أننا لن نستطيع، ونحن نقرأ الرواية، أن نضع حسان في أي تصنيف، على الرغم من أنه يبدو رجلاً بلا معنى. كما لن نعرف لماذا دفعت بوليت هذا الثمن الباهظ لخيار اتّخذته في شبابها الأول، وهو أن تنقلب على كلّ حياتها وتتلبس حياة أخرى، أو لماذا حافظت وداد على ذلك العناد الذي لم يوصلها إلّا إلى العزلة والبؤس؟

«وهكذا هم الجميع، يبدأون الاعتياد من المرة الأولى التي يحصل فيها ما لم يكونوا ينتظرون حصوله. كأنهم عاهدوا أنفسهم على القبول بكلّ ما يجري لهم مقابل أن يظلوا أحياء». وكأنّك تتحدث عن واقع اللبنانيين الذي لم يتغيّر، وكأنه «الوجيز في الإهانة» والعبارة لبرنار نويل. هل باتت هذه الإهانة بحكم العادة؟
ـــ فعلاً، وأنا دائماً أسائل نفسي كيف أن بوليت ووداد بقيتا كل تلك السنين ثابتتين على قرار اتخذته كل منهما في مرحلة فوران الأفكار والأمزجة في زمن الستينيّات ذاك. هل هي العادة؟ هل هناك وقت يؤخذ فيه القرار الشخصي ثم يصير صعباً، أو حتى مستحيلاً، تغييره. وداد قرّرت في سنوات شبابها، حين كانت طالبة في السنة الجامعية الأولى، أن تغيّر عالمها الذي وُلدت فيه، أن تغيره جوهرياً وكلياً. ربما كانت في العشرين آنذاك، وها هي في الخمسين ما زالت كما هي، مسلمة وليست مسيحية كما ولدت ونشأت؛ فقيرة لا غنية بحسب ما كان متاحاً لها؛ مبالغة في إخفاء جسمها وشعرها تحت الثياب السوداء فيما كانت، قبل خيارها ذاك، واحدة من البنات اللافتات لأنظار شباب الكلية؛ وحيدة إلى حدّ أنها لم تطق أو لم تتحمل زيارة بوليت لها، وهي على الأغلب صديقتها الوحيدة. هناك آخرون في الرواية، بينهم حسان ومن هم مثله، الذين تركوا للأيام وحدها أن تجري الإضافات على شخصياتهم. هؤلاء ينتهون غالباً إلى أن يكونوا بلا صفات. لم يتغيرّوا بالقدر الذي يمكن للرواية أن تأخذهم، ولو بخطوات قليلة، إلى أن يكون وجودهم مكثّفاً لنهاياتها. هكذا بما يُظهر كيف أن الأشخاص القليلة صفاتهم يتلاشون قبل أن تنهمك الرواية بكتابة صفحاتها الأخيرة.

استمتاع القارئ بأعمال حسن داوود، بالبناء الروائي والسرد لا يقل عن استمتاعه باللغة التي تصنع من التفاصيل الدقيقة عالماً مدهشاً. كيف تكتب؟ وهل الرواية هي الخيمياء بين كلّ هذه العناصر؟ وكيف نعرف أننا أمام رواية جيدة؟
ـــــ ما زلت أذكر كيف أنني، في عمر القراءة المبكر، كنت أضع القلم الرصاص إلى جانبي متحيّناً قراءة مقطع يعجبني لأضع تحته خطاً. ربما كنت أظنّ آنذاك أنني أُرشد نفسي، عند القراءة الثانية، إلى ما يجب أن أعود إلى الوقوف عنده. لكنّني لم أعد مرّة إلى تلك القراءة الثانية، ففي الرواية يختلف الحال عن الشعر. في هذا الأخير أنت تسعى لحفظ ما أعجبك، غيباً وعن ظهر قلب. أمّا الرواية، فتقرأها مرةً واحدةً. لهذا أجدني غير مصدّق ما يقوله بعض الروائيين بأنهم قرأوا كتاباً، «ألف ليلة وليلة» مثلاً على ما صرّح غارسيا ماركيز، عشرين مرة. ربما كنت أضع تلك الخطوط للاستحسان فقط، أو ربما لكي أضع نفسي في فئة القارئين، أو حتى النقاد. في النهاية، باستحساني أو اختياري، أتقدّم معلناً رأيي الشخصي ليس حول ما قرأت فقط بل حول ما هي الكتابة، أو ما يجب أن تكونه. الآن، بعدما قطعت شوطاً نحو انضمامي إلى عالم الكتابة، أراني أكتب في وجهة ما كنت أفعل في عمري المبكر ذاك، حيث بدأت أسطّر تحت الجمل أو المقاطع التي تعجبني. تلك الجملة التي كنت أراها ترتفع إلى حدود أن تكون فكرة، التي تقول شيئاً يفاجئ أو يكشف، والتي لا تكتفي، في الرواية، بالسرد المتصل الرتيب حتى وإن كان مشوّقاً، هي التي أبقتني فيها. ولا أقتصر في ذلك على الشذرات التي تنتثر هنا وهناك بين الصفحات أو الفصول، بل أسعى في ما أكتب إلى أن تكون تلك المقاطع المستوقِفة صائغةً للرواية ولغتها وفكرها.
قد يُظن أن كتابة مثل هذه تُقعدها الصرامة وثقل الأفكار. وهنا عليّ أن أضيف بأني أرى في الكتابة الساخرة، بل حتى الهازئة، شيئاً من هذه الأدبية أو الشعرية. هذا ما أحبّ أن أقرأه أيضاً: أن يكون السطر بحدّ ذاته هو القراءة وليس معبراً يوصل إلى ما سيحدث في ما يلي من تسلسل المقاطع والصفحات.
ذاك من أجل أن تصير ممكنة كتابة ما هو منبثق من رؤيتك الخاصة للعالم الذي تكتبه. أقصد أن تكون للكاتب أفكاره ورؤاه مثلما له لغته. ومثلما درجنا على أن نقول إن موضوع الرواية وأفقها هو التأمل في الفرديات، أقول أيضاً إن ذلك ينطبق أيضاً على الكتابة بما هي إنجاز فرديّ. هكذا يجب أن تكون، أي أنّ النص الروائي نتاج خاص عن عالم خاص. أي مثلما اعتدنا أن نقول إن القصيدة هي كاتبها، ربما الرواية هي كذلك، وفي كل ما يكوّنها.