يزداد المشهد السياسي العراقي تعقيداً منذ الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2019. يعدّ هذا الحراك أحد أهم الحركات الاجتماعية التي شهدها العراق خلال قرن من الزمن. لذا يسعى كتاب «الاحتجاجات التشرينية في العراق – احتضار القديم واستعصاء الجديد» (مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، 2020) لتقديم خمس مقاربات متعددة الاختصاصات لهذا الحدث السياسي المفصلي في تاريخ العراق.يقدم الأكاديمي العراقي وأستاذ الاقتصاد مظهر محمد صالح مقاربة اقتصادية سياسية لرسم طريق الرأسمالية الجديدة ما بعد الغزو 2003 ومكوناتها الاجتماعية العرقية والمذهبية نحو معاقل الاغتراب، بحيث أصبحت السياسة والاقتصاد يُداران مِن خارج العراق. تمتعت ليبرالية السوق التي اعتمدها النظام العراقي بانفلات عالٍ من الضوابط التجارية، والتصقت بشدة بأسواق المنطقة إقليمياً، ما جعل الأسواق المحلية العراقية تتشظى وطنياً وتبحث عمّن يحاكيها أيديولوجياً أو إثنياً أو مذهبياً لإقامة مصالح اقتصادية وسياسية.



المقاربة الأولى: من صراع المكونات إلى صراع الطبقات
لم تترك تلك الليبرالية أي فسحة للكيان الريعي المركزي العراقي لبناء نموذج تنمية وطني تنسجم فيه البنية التحتية لقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الوطنية مع البناء السياسي الفوقي الديمقراطي الجديد لتوليد عدالة في توزيع الدخل وقدرة على الاستخدام الأمثل لقوة العمل النامية. فقد حدث العكس، إذ جرت حالة تكريس لآليات أرهقت البناء الفوقي للدولة - الأمة وأدت إلى ولادة الدولة - الأمة الموازية أو المغتربة. ما سبق تسبّب ــ في نظر صالح ــ في تدهور البناء الاقتصادي التحتي بفعل عوامل ريعية استهدفت السوق الداخلية وليبراليتها الشديدة كي تتحول بسرعة للعمل نحو الخارج مقوّضةً دالة الإنتاج الوطنية (العمل ورأس المال) وسعت نحو تفكيك تلك الدالة الإنتاجية الوطنية لتلتحم بحركة العولمة. وفي الوقت ذاته، نشأت طبقة عاملة مُعطَلة لم تستطع أن تعيش حتى على هامش الريع النفطي وفتاته مكونة بهذا وعياً أيديولوجياً حرّاً دفعها للاحتجاج، وصارت هذه الطبقة عابرة للمذهبية الدينية أو التعصب القومي أو المناطقية، على خلاف، بعض قطاعات الطبقة الوسطى التي فقدت ربما جانباً من هويتها الوطنية وانغمست بمعطيات الدولة الريعية وأمست تلهو بالمحاصصات والمنهج الطائفي والإثني.

المقاربة الثانية: بنية السلطة
يقدم الباحث في «معهد كارنغي» حارث حسن مقاربة سياسية للحركة الاحتجاجية التشرينية التي اتّسمت بغياب القيادة المركزية العمودية وبالطابع الأفقي - اللامركزي للنشاط الاحتجاجي وبالحضور الطاغي لشباب وبالتوجس من الظاهرة الحزبية وبغياب الأيديولوجية السياسية. تأتي الاحتجاجات كنتيجة لانغلاق الأفق السياسي وتراجع قدرة المؤسسات السياسية القائمة على تمثل واستيعاب المطالب والشكاوى الاجتماعية إلى انتقال الفعل السياسي إلى الشارع حيث يصبح احتلال الفضاء العام بذاته محاولة لخلق ممكنات بديلة وإنتاج ضغط يفرض على مؤسّسات السلطة والقوى المهيمنة عليها التصرف بطريقة مغايرة. ويخلص حارث حسن إلى أن الاحتجاجات التشرينية تواجه نظاماً متعدّد الأقطاب يصعب إسقاطه لأنه ليس متموضعاً في مكان مُحدّد (المنطقة الخضراء ما هي إلى رمزية عن الأوليغاركية الصاعدة أكثر من كونها مركزاً محدداً لسلطة). وهذه التعددية مكّنت معظم مراكز القوى السياسية الفاعلة من تملك ميليشيات وأجهزة عنف تسمح لها بممارسة الإكراه والقمع بمعزل عن المؤسسات الرسمية، ما يجعل الحرب الأهلية خطّ دفاع عن وجودها إن تنامى مستوى تهديد الاحتجاجات للنظام.

المقاربة الثالثة: فقراء الشيعة
يقدّم البروفيسور والباحث والكاتب العراقي فارس كمال نظمي مقاربة سيكولوجية لـ«ثورة» تشرين، معتبراً ما تم من حِراك جماعي يعبّر عن تنامي الفردانية. إذ يبرز الفرد وسط الجموع للتعبير عن رغبته الذاتية باستعادة حقوقه في أن يكون مشاركاً في الثروة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية بعدما جرى تهميشه واستعباده طويلاً. وفي نظر فارس، ما يجمع بين حركتَي الاحتجاج في البصرة 2018 وبغداد-الرصافة في تشرين 2019 أن عمادها الشباب الشيعي، هو ممن تكاد أن تقتصر تنشئته السياسية على حقبة ما بعد 2003. هذا الشباب اقترن لديه الدين السياسي بالفساد والفقر والبطالة وتفتّت الوطن في ظل انفتاحه المعلوماتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي على تجارب الرفاه والتقدم في بلدان أخرى.
ما سبق ولّد لدى الشباب نموذجاً سيكوسياسياً جديداً يستند إلى منظورات عدة أهمها: منظور التداعي الاجتماعي (الحرمان النسبي) ومنظور البحث عن الهوية والمعنى (إطار اجتماعي وطني) مُختلطان مع تدهور الشرعية السياسية وتصاعد الوعي النقدي واشتداد الاغتراب السياسي لدى المحتجين. وهذا ما أعطى الاحتجاجات منظوراً جديداً هو: شرعية المهمشين. فالوضع العراقي المتردّي لا يمكنه إلّا تدوير نموذج «الفاقد-المالك»، وهذا ما جعل المهمشين ينهضون لإعادة إنتاج وجودهم الاجتماعي بصيغة وجدانية ثورية.

المقاربة الرابعة: الرموز الحسينية في الاحتجاجات
يقدم الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية في العراق عقيل عباس مقاربة ثقافية حول الوظيفة السياسية للطقوس والرموز الحسينية الشيعية التي تم استغلالها بدعم حزبي ومؤسساتي لضمان الهيمنة الشيعية على مقاليد السلطة والموارد العراقية. لكن في انتفاضة تشرين 2019، وظّفت الرموز الحسينية بدون بُعدها المذهبي، بل استُغلت لإعادة تشكيل الحس بالوطنية العراقية عبر تكوين سردية جديدة تنصّ على عدالة اجتماعية وطنية، لتحول الهويات الاثنو-طائفية (شيعية، سنية، كردية) إلى هويات وطنية. تمت عرقنة الخطاب الشيعي لتحويله إلى خطاب سياسي وطني. فجملة مثل «هيهات منا الذلة» التي نطق بها الإمام الحسين عندما رفض الاستسلام في كربلاء للأمويين، تم تقديمها كرفض قاطع لممارسات السلطة القائمة في العراق في مأسسة سردية خطابية جديدة. وليس فقط الخطاب، بل ظهرت الأعلام الحسينية إلى جانب العلم العراقي كدليل على تكافؤ ومزج وطنيين.

المقاربة الخامسة: الاحتجاجات... المآلات الممكنة
يقدم أستاذ علم الاجتماع السياسي في كلية آداب جامعة بغداد علي طاهر الحمود مقاربة سوسيولوجية للوقوف على خبايا البنية الاحتجاجية ودوافع الاحتجاج المختلفة الهوياتية أو الاقتصادية أو السياسية. يفنّد الحمود الوضع الاقتصادي الريعي للعراق حيث بلغت البطالة بين صفوف الشباب 40% ويدخل إلى سوق العمل ثانوياً قرابة 600 ألف شاب، في حين أن الدولة لا توفّر سوى 50 ألف فرصة عمل ثانوي. ما جعل الحراك التشريني منذ لحظته الأولى يشهد حضوراً كثيفاً لشباب لا يملك مطالب محدّدة بقدر ما هو غاضب وناقم من النظام الحاكم. وأعطى وجود المرأة العراقية في التظاهرات مشروعية جديدة ومتنوعة للاحتجاج. ومثّل الحضور النسائي تحدّياً للمجتمع العراقي البطريركي التقليدي، وكان دلالة على التغيير في عقول أرباب الأسر العراقية. ولعبت الأمهات دوراً كبيراً في الاحتجاجات. إذ يرصد الحمود حرصهن على الوجود إما لمراقبة أبنائهن الذكور المتحمسين للتظاهر، أو الحضور الكثيف للرموز الدينية الحسينية، ما جعل السير في التظاهرات يبدو كشأن ديني له ثوابه. كما يشير الحمود إلى غياب النخب والمثقفين والناشطين والمجتمع المدني والأكاديميين عن بداية الدعوات لتظاهر ويعود الأمر إلى ثلاثة دوافع رئيسية:
1) اليأس من التغيير.
2) الخيبة من تحالف التيارات المدنية مع تيارات الإسلام السياسي.
3) الدعوة للتظاهر صدرت من طبقات شبابية فقيرة وليست على مستوى عال من التعلم، ما جعل النخبة الثقافية تترفع عن الاحتكاك بهذه الطبقات!
وشكّك المثقفون في نجاح الاحتجاج ولكن بسبب كثافة الحضور الجماهيري اشترك البعض تباعاً، ولعبوا أدواراً تنظيمية مثل عدم قطع الطرقات، ورفض الزجّ بالأطفال في التظاهرات، وعدم تأييد اقتحام المنطقة الخضراء، ولعبوا دوراً في صياغة العديد من البيانات المطلبية للمحتجين، كما قدموا دعماً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي للحركة الاحتجاجية.
من الصعب تخيل أنّها ستسفر عن شروط تغييرية محددة تخص المجتمع


أما بالنسبة إلى العشائر، فلم يكن لها موقف موحّد، لكن يمكن وصف وضعها بالموارب. وهذا يعود إلى طبيعة الشباب المدنية الحضرية المشارك في التظاهرات، وهذا قد يعتبره شيوخ العشائر تحدياً لسلطتهم الرمزية التقليدية.
بالرغم من الزخم والمساندة الكبيرة التي قدمتها أطياف فاعلة عدة في المجتمع العراقي للاحتجاج مثل المرجعية الدينية وعشرات المجموعات الشبابية التي أطلقت مبادرات اجتماعية وسياسية جديدة، إلا أن أمل انبعاث عقد اجتماعي عراقي جديد يبدو ضئيلاً، فالمكون الأساسي في الاحتجاجات هم شباب قليلو التعليم لا يعنيهم عالم الأفكار المجردة بقدر تحررهم من سطوة محتكري السلطة والمال.
ومن الصعب تخيل أنّ الاحتجاجات ستسفر عن شروط تغييرية محددة تخص المجتمع. فأفكار مثل انبثاق قيادات وبرامج وتنظيمات وبدائل سلطوية جديدة تبدو مرهونة بأفكار غير مرسخة في ذهنية المحتجين مثل المواطنة، وسيادة القانون... وبهذا تبقى استقالة الحكومة، وإعادة تشكيل مفوضية الانتخابات، وإيقاف التعيين في الدرجات الخاصة العليا، والتصويت على قانون جديد للانتخابات هي مكاسب قصيرة المدى لا ترقى لثورة تغيير جذرية في المجتمع العراقي.