تغرينا بعض العناوين وتدعونا إلى قراءة المضمون، وبعضها الآخر ينفّرنا، لأننا نستوعب من خلالها أحداث الرواية، وبالتالي تفقد بريقها عند القارئ، الذي لن يكلف نفسه جهد القراءة حتى النهاية كي يتمكّن من فهمها، لأنها في الأصل كشفت نفسها عند أول استجواب. لكننا مع رواية «ملك الهند» (دار الساقي) لكاتبها الروائي اللبناني الكبير جبور الدويهي، نقف مشدوهين أمام ذكاء العنوان ورمزية الغلاف وعلاقتهما بالمتن. الغلاف عبارة عن لوحة «عازف الكمان الأزرق» للرسام الروسي شاغال، ترمز إلى الحنين. لكن ماذا عن العنوان «ملك الهند»؟ لماذا هذه التسمية بالذات وما علاقة رواية لبنانية بالهند؟!عندما يبلغ القارئ مشارف نهاية الرواية وتحديداً الصفحة 197، يكتشف الدافع لاختيار الدويهي هذا العنوان: «لم أكذب يوم قلت لك إنني عاجزة عن الاستقرار وإنني لست جديرة بالمعاشرة وكان عليك تصديقي، وها أنا أرحل عنك من دون رجعة. هكذا أكون المرأة الأولى التي تنفر منك، أنت الذي انتهت جميع مغامراتك النسائية بهربك كما تقول، فلا ينجرح غرورك، أعتقد أنني لن أظلمك كثيراً إذ تركتك مع ماري وخلّصتك مني ومن حياتي الصعبة ومن أسراري الأقرب إلى الأوهام التعيسة. تمتع بها لوحدك إنه حلمك، أنت الآن ملك الهند، كما يقول أبي قبل أن يقفل الباب على نفسه».


تمكننا هذه الفقرة من فهم ما كان يرمي إليه الكاتب بالعنوان، وسبب هذه التسمية التي جاءت ربما لتلفت نظرنا إلى كمية السعادة التي كان زكريا يوهم نفسه بها وكأنه ملك... أو ربما يعود أصل التسمية إلى النصيحة التي أسداها جار زكريا الهندي، بحرق جثة ابنته الوحيدة ماري التي قتلها متطرّف أميركي.
فمن لم يقرأها جيداً، سيصدمه العنوان، لأنه رسخ في ذهن بعض القراء، أن العناوين بالضرورة هي شرح مفصّل لأحداث الرواية، في حين أن العنوان قد يتحدّث عن جزئية بسيطة تدور حولها أحداث الرواية، كعادة حرق الميت عند الشعب الهندي وما يمثله في عقيدتهم: يطهر الروح ويمنحها سموّاً وسعادة.
حزن زكريا على ابنته المتوفاة، إلى درجة أنه اتّخذ قرار العودة مجدّداً إلى قريته، وما عقبه من أحداث، هو ما حرّك أحداث الرواية وجعلها تتشابك في ما بينها في قالب روائي مشوق. قارئ جبور الدويهي يدرك أنه لا يمكن أن يضع عنواناً هكذا من دون أن تكون له خلفياته وتأثيره في العمل.
تسرد رواية «ملك الهند» تاريخ لبنان المثقل بالأوجاع، انطلاقاً من القرن التاسع عشر لغاية أيامنا هذه، تروي حكاية بلد مرّ عليه الكثير من المحن: الطائفية، الاجتياح الإسرائيلي، الحرب الأهلية... كل هذا لم يمنع جبور الدويهي من أن يأخذنا في جولة ممتعة بين ثنايا صفحات «ملك الهند» (واقعة في 228 صفحة) المكتوبة بلغة جميلة وسرد بوليسي مذهل يندرج ضمن ما يسمى بالأدب الأسود، في مزاوجة ممتعة بين التاريخ والواقع، لنتعرف عن كثب إلى البطل زكريا ونعرف عن تاريخ لبنان ما نجهله.
حقيقة، موضوع الرواية مكرر، فأينما وجدت الطائفية والحرب، وجدت هكذا أمور، لكن لا ينفي أن العمل مميز ومختلف، وهذا ما عوّدنا عليه الدويهي في كلّ منجزاته. فهو بحق داهية سرد، ينتهج خطاً روائياً يميزه عن غيره. رواية تقرأ في جلسة واحدة، إلّا أن ما تبعثه في أنفسنا من تساؤلات تلزمه جلسات وجلسات لنفيَ الموضوع حقه. تسرد الرواية في البداية قصة الجدة فلومينيا التي غادرت تل صفرا بحثاً عن زوجها في فرنسا ليستقرّ بها المقام في نيويورك. بعد ذلك تتوالى الأحداث لتجد نفسها مع إرث كبير يهبها إياه عجوز فرنسي قامت بخدمته. شجعها ما حصلت عليه من إرث على العودة إلى قريتها لتشيد صرح آل مبارك: «ذاقت فلومينيا مرارة الهجرة، وجابت البحار بمفردها، فاخترعت هذه الكذبة ليتمسك ابنها وسلالته بمسقط رأسهم، كي لا يتجرؤون على بيع البيت، فسّرت قول المسيح: «حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم» على هواها، حرفياً».
تاريخ لبنان المثقل بالأوجاع، انطلاقاً من القرن التاسع عشر لغاية أيامنا هذه


ورث ابنها إبراهيم والد البطل زكريا كل ثروتها. لكن كل ذلك لم يمنع زكريا من السفر وترك كل شيء وراء ظهره ليهجر لبنان لأن هناك ثأراً بين عائلته المسيحية المارونية وعائلة آل حمدان الدرزية.
هرب زكريا من سندان العنصرية التي راحت ضحيتها ابنته في بلاد العم سام، ليجد نفسه بين مطرقة الطائفية التي قتل أو انتحر بسببها حين عاد إلى قريته «تل صفرا» بعد رحلة طويلة جاب فيها كل ربوع أوروبا من فرنسا إلى سويسرا إلى أميركا، في رحلة خبر فيها الحياة وملذاتها، هو المحبُّ للنساء والهاجر لهن في آن، آخرهن ماتيلد الفرنسية التي تركها بعدما أخذ منها لوحة «عازف الكمان الأزرق». عاد إلى ضيعته عودة لا رجوع بعدها، وهو الذي اختار دائماً الهرب من كل شيء في رحلة بحث عن متعة مجهولة النسب، ولربما هذا ما رمز إليه العنوان.
الجميل في رواية «ملك الهند»، أنها لا تُقرأ إلا دفعة واحدة، لا يمكنك أيضاً أن تقتبس منها لأنها تشكل بحد ذاتها اقتباساً كبيراً للحياة، الغربة، الوطن، المعاناة، الفقدان، الألم. تشتت الإنسان العربي سواء أكان مسلماً أو مسيحياً، وصراعه على مدى التاريخ. سأستعير من الروائي الجزائري الكبير أمين الزاوي قوله: «رواية «ملك الهند» رواية الأسرة اللبنانية والعربية معاً. إنها رواية الإنسان وبحثه الدائم عن السلام وحنينه للسعادة».