لعلّه من سخريّة القدر أن تتحوّل المناضلة الأميركيّة السوداء أنجيلا ديفيس (1944) إلى أيقونة نضال أممي على يد الـ FBI (مكتب التحقيقات الفيدرالي)، تحديداً حين أضاف اسمها عام 1970 إلى قائمة أخطر المطلوبين للعدالة (الأميركيّة)، ووضع صورتها على بوستر وزّع للعموم وعنوِن بــ «مسلّحة وخطرة». في تلك الأوقات، كان ذلك الوصف بمثابة دعوة صريحة لكي يتولّى أحد رجال الشرطة العنصريين إطلاق الرصاص عليها بدم بارد من دون أن يخشى المساءلة. وعندما اعتقلت بعدها بأيّام، لم يكن أقل من الرئيس ريتشارد نيكسون نفسه من تولّي الإعلان عن «القبض على الإرهابيّة شديدة الخطورة أنجيلا ديفيس». تحوّل البوستر العتيد بوابة شهرة معولمة للمناضلة المثقفة والصلبة والشجاعة، فكانت تتلقى في سجنها ما يعادل 400 رسالة تضامن يومياً طوال فترة توقيفها، ليس من المواطنين الأميركيين فحسب بل من جميع أرجاء العالم. من وقتها لغاية اليوم حيث تبلغ السادسة والسبعين، تحوّلت صوتاً عالياً ورمزاً لكل مقاومة، تحضر دائماً حيث يجب أن تكون: مع كل فلسطينيي هذا العالم على حد تعبيرها. في «شهر التاريخ الأسود» الذي يستعيد الأدوار المهمة التي لعبها الأميركيون السود في تشكيل تاريخ الولايات المتحدة، وتحتفي به الأخيرة في شهر شباط (فبراير) من كل عام، لنعد إلى مسار ديفيس الذي جمع بين النضال النظري - الأكاديميّ والعمل الثّوري على الأرض.


«إنّ الطريق الوحيد لتحرّر الأميركيين السود يمرّ بإسقاط كليّ ونهائيّ للطبقة الرأسماليّة المهيمنة على هذا البلد» (أنجيلا ديفيس)
ولدت أنجيلا عام 1944 في مدينة بيرمينغهام في ولاية ألاباما الأميركية التي وصفها مارتن لوثر كينغ يوماً بأنها «أكثر مدن الولايات المتحدة انفصالاً بين البيض والسود». نشأت في حيّ عُرف بحيّ «الديناميت» لكثرة بيوت السود من الطبقة الوسطى التي نسفت في إطار حملة عنصريّة بغيضة لطردهم منه. في مذكراتها، رسمت أجواء تلك الفترة من تاريخ الجنوب الأميركيّ عندما كان ينبغي للأسود - وفق قوانين الفصل العنصريّ التي شرّعت بعد إنهاء العبوديّة رسمياً – أن يعرف مكانه في المجتمع ويقف حدّه، ويبقى في الأماكن المخصصة للملونين فقط في المحلات التجاريّة ووسائل النّقل العام.
كان والداها ناشطين في مجموعات معتدلة سياسياً تدعم توحّد البيض والسود معاً ضدّ الفصل العنصري، لكنها عبر مرافقة أمها في التظاهرات والحراكات، وتعرّضها للضرب أحياناً من قِبل العنصريين البيض المتطرفين، والتهديدات المتكررة بالقتل التي تتلقاها العائلة، بدأت تكوّن رأياً مختلفاً يميل أكثر تجاه وضع النّضال ضد العنصريّة ومن أجل الحقوق المدنيّة في خانة السود ضد البيض. سمعت أنجيلا بالشيوعيّين من خلال تعاون أمّها معهم في تنظيم الأنشطة أحياناً، ومن خلال الحملة المكارثيّة القذرة لاستئصالهم، لكنّها لم تطّلع على الفكر الماركسي إلا بعدما انتقلت بمنحة تفوّق إلى المدرسة الثانويّة الخاصة في غرينويش في نيويورك عندما تحدّث إليها مدرسوها (وجلّهم كانوا من المطرودين من التدريس في المدارس العامة لآرائهم السياسيّة) عن الفكرة الاشتراكية الأممية كجزء من الدروس. هذا ما أثار فضولها ودفعها إلى قراءة المانيفستو الشيوعي (ماركس وإنجلز) الذي كان لها بمثابة «صعقة برق» غيّر تفكيرها بصورة جذريّة، ووجدت فيه إجابات وتفسيراً لكثير من المفارقات التي طالما شغلت عقلها الثائر الجميل.
سحرتها تحديداً صرخة «يا عمّال العالم، اتّحدوا»، وأصبحت قضيّة نضال الأميركيين السّود في نظرها جزءاً من تلك الجبهة الأمميّة العريضة التي تواجه المنظومة الرأسماليّة الجشعة في كل مكان. وما لبثت أن التحقت بمنظمة ماركسيّة-لينينية للشباب، وشاركت من فورها في حصارهم لفرع متجر تفرقة كبير يحتلّ قلب الشارع 42 في نيويورك سعياً للضغط على إدارته بتعيين موظفين سود في فروعه جنوبيّ البلاد، كما في رحلات باصات «نشطاء الحريّة» التي كانت تنقل الناشطين لمساندة حراكات الحقوق المدنيّة للسّود في الجنوب، رغم أن قوات البوليس كانت تتغاضى عن اعتداءات متطرفي «الكوكلوكس كلان» عليها.
قدرها الماركسيّ اكتمل بعدما حصلت على منحة تفوّق للدراسة في «جامعة برانديس» في ولاية ماساتشوستس حيث تتلمذت على يد الفيلسوف الماركسي الشهير هيربرت ماركوزه الذي اعتبرته دائماً ملهمها في الجمع بين النضال النظري - الأكاديميّ والعمل الثّوري على الأرض. وقد سافرت أثناء دراستها الجامعيّة إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا، ما منحها القدرة على تجاوز قفص التجربة الأميركيّة، والتحقت فور عودتها بتجمّع لطلبة اشتراكيين يكافحون ضد حرب فيتنام. لكن ذلك لم يشغلها عن تحصيل تعليم رفيع، فحصلت على الماجستير والدكتوراه في الفلسفة، والتحقت (1969) بدائرة الفلسفة في «جامعة كاليفورنيا» (لوس أنجليس). وهناك انتمت إلى «نادي تشي _ لومومبا» الذي كان بمثابة جناح للسود في الحزب الشيوعيّ.
تحوّلت محاضراتها الجامعيّة إلى مشروع وعي ثوري متصاعد، ما أثار قلق السلطات الأميركيّة التي كانت تراقب ـــ وما زالت ـــ الجامعات عن كثب سعياً لإسكات كل سرديّة قد تتعارض مع مصالح نخبتها ذات النفس الإمبراطوري البغيض. ومن سوء حظ أنجيلا أن رونالد ريغان كان وقتها حاكماً للولاية، فاستهدفها بالتعاون مع إدارة الجامعة محاولاً طردها بداية بسبب عضويّتها في الحزب الشيوعيّ. لكن الطلاب تضامنوا معها. وبدلاً من عشرات يحضرون دروسها في العادة، تضاعف العدد إلى أكثر من 1500 طالب، حتى لم تعد هناك قاعة في الجامعة تتسع لهم. لكن ريغان الحاقد على الماركسيّة لم ييأس، ونجح لاحقاً في طردها من الجامعة بناء على وصفها القتلة من رجال الأمن الأميركيين بـ «الخنازير».
نقطة التّحول في صراع أنجيلا مع السلطة حدثت تالياً بعدما أقدم أحد حرّاس «سجن سوليداد» على تصفية ثلاث من قيادات «حركة الفهود السود» أو «بلاك بانثرز» التي تكوّنت في مرحلة الستينيات بعدما بدأ بعض الناشطين المتمركسين باليأس من إمكان التغيير بالوسائل السلميّة في ظلّ السلطة القائمة وفق تجربة حركة الحقوق المدنيّة، التي لم تحقق وقتها أي تغيير جذري في عنصريّة الدولة الأميركيّة ضد مواطنيها السّود. كان الحارس قد أطلق الرصاص على الثلاثة بدم بارد وبشكل متعمّد أثناء أحد الاضطرابات المطلبيّة، لكن المحكمة أخلت سبيله من دون عقوبة، ليُعثر على جثته وقد تعرّض لضرب مبرّح تحت نافذة غرفة ضمّت ثلاثة من منسوبي الحركة، فوجّهت إليهم التّهمة من دون دليل. وقد حاولت الحركة تحريرهم عنوة لدى مثولهم أمام القاضي (1970)، لتنتهي المواجهة بتبادل للرصاص مع البوليس قضى فيها المهاجمون الثلاثة، بعدما قتلوا القاضي وأصابوا بعض الحاضرين. لكن التحقيقات كشفت لاحقاً عن دور أنجيلا في توفير السلاح الذي استخدمه المهاجمون، ما اضطرّها إلى الهرب. وقد أُدينت غيابياً بتهمة محاولة الخطف بالعنف المسلّح، وبالقتل المتعمّد من الدرجة الأولى، وأصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي مذكّرة لاعتقالها. وما لبثت أن أصبحت المُطاردة الأولى على لائحة المجرمين الخطرين المطلوبين لعدالة العم سام (وربما قتلهم فوراً إذا تطلّب الأمر)، وعمّم البوستر الشهير عنها «مسلّحة وخطرة» في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
جون لينون ويوكو أونو كتبا من أجلها أغنيّة «أنجيلا - ثمّة رياح لا تموت يا أختاه» ليترنّم بها ملايين الشّبان والشّابات


اعتُقلت أنجيلا بعد أيّام عدة، وهنّأ الرئيس ريتشارد نيكسون علناً رجال مكتب التحقيقات لـ «قبضهم على الإرهابية شديدة الخطورة أنجيلا دايفس»، التي ألقيت في السجن الانفرادي لمنعها من «تلويث» عقول السجينات الجنائيّات بالأفكار الماركسيّة.
لقيت بروفيسورة الفلسفة السجينة تضامناً شعبياً واسعاً داخل الولايات المتحدة وفي أرجاء العالم، لا سيّما في أجواء غضب متزايد بين السود إثر اغتيال مارتن لوثر كينغ، وعزم السلطات على إنهاء حركة «الفهود السود» بالقوّة عبر قتل كل قاداتها ومنتسبيها واحداً واحداً أو تلفيق التهم لهم وإلقائهم في السجن بأحكام طويلة، حيث لا يزال بعضهم معتقلين. وقد عرض عدّة مشاهير دفع قيمة كفالة باهظة لإطلاق سراحها إلى حين محاكمتها، بينما تدافع نجوم الموسيقى العالميين للتغني بها ومنهم جون لينون ويوكو أونو اللذان كتبا من أجلها أغنيّة «أنجيلا - ثمّة رياح لا تموت يا أختاه» ليترنّم بها ملايين الشّبان والشّابات. ويبدو أن هذا الضغط أجبر هيئة المحلفين ـــ البيضاء بالكامل ـــ على عدم إدانتها بالخطف أو القتل رغم ثبوت علاقتها بالأسلحة على أرضيّة أن ذلك لا يعني بالضرورة المشاركة في هذا الهجوم بالتحديد.
أنجزت أنجيلا كتباً عدّة مذهلة أشهرها «النّساء والعرق والطبقة»، وسجّلت بدقة خبرة النساء السوداوات في النضال ضد اضطهاد السلطات الأميركيّة، وجادلت في أهميّة مفهوم الطبقة ليست فقط كموضع لقمع النخبة الرأسماليّة الحاكمة بل كمصدر قوّة ودافع للتضامن والثورة. وهي كانت من أوائل المثقفين الماركسيين الذين بحثوا في ما يوصف الآن بالنضال ضد القهر المتعدد الجوانب في آن معاً، ما قد يفرز أشكالاً مبتكرة من مساحات المواجهة أيضاً.

أصبحت قضيّة نضال الأميركيين السّود في نظرها جزءاً من الجبهة الأمميّة التي تواجه المنظومة الرأسماليّة في كل مكان


تستمرّ أنجيلا باندفاع في الكتابة والنّضال بينما تقترب من نهاية العقد الثامن من العمر، وهي ناشطة في كل الحراكات المعادية للحروب في الغرب. دعمت مرشح اليسار البريطاني جيريمي كوربن في رسالة مفتوحة عندما كان قريباً من تولّي منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة، فيما تركّز أيامها حالياً على تصحيح مسألة تطبيق العدالة وتنفيذ القانون في الولايات المتحدة التي ما زالت فضاء تغلب عليه العنصريّة ضد الشبان السود. وقد منحتها تجربتها في الحزب الشّيوعي القدرة على استكشاف مسألة العنصريّة العرقيّة في إطار أوسع، وبناء فهم متقدّم لديناميكيّات الاضطهاد الذي يمارسه النّظام الأميركيّ من خلال قراءة ارتباطه بالصراع الطبقي والمنظومة الرأسماليّة، لتكرّس نفسها لأجل قضيّة مواجهة وإسقاط الطبقة الفاسدة التي طالما وظفت أشكالاً متفاوتة من العنصريّة ضدّ كل آخر مختلف. يعتبرها كثيرون اليوم أنموذجاً عملياً لتقاطع النظريّة بالممارسة الثوريّة، وأيقونة ساطعة للنّضال بكل جبهاته: السود، والنّساء، والطبقة العاملة، وضحايا الإمبرياليّة الأميركيّة في كل مكان. تجرّأت ديفيس على الربط بين نضالات الأقليّة السوداء في أميركا وتلك التي يخوضها الفلسطينيون ضدّ سلطات الاحتلال الإسرائيليّة، لتجعل منهم شركاء في معركة واحدة، فكأننا «كلنا فلسطينيون في مواجهة ذات العدوّ على جبهات عدّة». وقد تسبب دعمها اللامحدود للفلسطينيين ولقضيتهم ولجهود مقاطعة الدّولة العبريّة، في عداء اللوبي الصهيوني العالمي لها. لقد نجح هؤلاء عبر ضغوط منسّقة، في دفع «معهد الحقوق المدنيّة» في مسقط رأسها بيرمنغهام للتراجع عن قراره بمنحها «جائزة فريد شاتلوورث لحقوق الإنسان» لعام 2019، قبل أن يعتذر عن ذلك ويعيد الجائزة إليها مرّة أخرى إثر الغضب الشعبي الكبير والانتقادات الواسعة التي تعرّض لها المعهد. لم تكن السّلطات القصيرة النظر في المدينة لتدرك أن ابنة مدينتهم، هذه الأنجيلا ديفيس، السيّدة العجوز ذات العينين المتوقدتين بالثورة والغضب، كانت أيقونة الثورة السوداء في كل مكان، وأنّها ذات الأنجيلا التي من أجلها كُتبت الأغنيات.



فيلم عن مسيرتها
أسندت شركة Lionsgate الأميركيّة للإنتاج السينمائي مهمّة إخراج فيلم يروي سيرة حياة البروفيسورة أنجيلا ديفيس للمخرجة الأميركيّة السوداء المعروفة جولي داش، من سيناريو للصحافي برايان تاكر فيما ستتولّى إنتاجه سيدرا سيميث. ويتوقّع أن يكون الفيلم جاهزاً للعرض في النصف الثاني من عام 2020. داش كانت أوّل سيّدة سوداء في تاريخ السينما الأميركيّة التي تخرج فيلماً يعرض تجارياً (Daughters of the Dust – 1991) (متوافر على نتفليكس، وقد أعيد تقديم الفيلم بعد ترميمه في «مهرجان تورنتو السينمائي» عام 2016 احتفالاً بمرور ربع قرن على إطلاقه). وعلم أن البروفيسورة ديفيس تتعاون بالفعل مع فريق العمل في الفيلم في إطار سعيها لأن يتضمّن تغطية واسعة للنضالات الجماعيّة التي انخرطت بها من دون التركيز على صيغة البطل الاستثنائي التي عادة ما تغلب على أفلام السيرة الذاتيّة للمشاهير. وكانت المخرجة الأميركيّة شهلا لينش قدّمت في 2012 فيلماً وثائقيّاً عن قصّة وصول ديفيس إلى قائمة أخطر المطلوبين للعدالة الأميركية بداية السبعينيات من القرن الماضي بعنوان «أطلقوا أنجيلا وكافة السجناء السياسيين» وحصل وقتها على تنويه النّقاد.
شغلت شخصيّة البروفيسورة ديفيس كوبا والكوبيين طويلاً. فقد تحوّلت بوصفها مناضلة سيدة وسوداء وماركسيّة إلى أيقونة تحرر ثوري في الجزيرة الثائرة، وتكررت زياراتها لهافانا مع كوادر الحزب الشيوعي الأميركي والتقت القائد فيدل كاسترو، وكان لها دور محوريّ في تشكيل وعي النساء الكوبيّات وتوجيه نضالهن وتوحيد جبهاته، لا سيّما بعدما توجهت القيادة الكوبيّة نحو مأسسة الثّورة وأصبحت أكثر من تحدّث من قادة نضالات السود الأميركيين في نشاطات اتحاد المرأة الكوبيّة. ولما اعتقلتها السّلطات الأميركيّة بداية السبعينيات، انخرطت كوبا بكل ثقلها في الحملة الدوليّة لإطلاق سراحها وتحوّلت صورتها أيقونة تزيّن بوسترات الدّعاية الكوبيّة في كل أنحاء الجزيرة وخصصت لها صفحات كاملة في جريدة الحزب الشيوعيّ اليومية واحتُفل بها كبطلة بعدما زارت الجزيرة المحاصرة إثر إطلاق سراحها في 1972.