1- العائلة البيضاءخرج أوّل إنسان أبيض من بيته، حاملاً سيفه، وذهب إلى العالم، فذبح الإنسان الأحمر والإنسان الأسود والإنسان الأصفر والإنسان الأسمر، وحين عاد إلى أهله، قال لهم: - الغريب أنّ لون دمهم مثل لون دمنا. فقالوا كلهم: - هذا افتراء. إمّا أن تكون كاذباً، أو أن تكون مصاباً بعمى الألوان. ثمّ أرسلوا إنساناً أبيض ثانياً، فخرج حاملاً سيفه، وذهب إلى القارات الخمس، فذبح الإنسان الأحمر والإنسان الأسود والإنسان الأصفر والإنسان الأسمر، وعاد إلى عائلته البيضاء، فقال لهم: - كما قال الإنسان الأبيض الأول. دمهم أحمر. - هذا غير معقول. ثمّ خرج الإنسان الأبيض الثالث بسيفه، ثمّ خرج الإنسان الأبيض رقم ثلاثمائة مليون، وحين عاد إلى عائلته البيضاء العريقة، قال لها: - الإنسان الأسود والإنسان الأصفر والإنسان الأسمر دمهم أحمر، وهذا مؤكّد. ثمّ فرش أمامها راياتهم البيضاء وعليها دمهم. - والإنسان الأحمر؟ - لا يوجد كائن اسمه الإنسان الأحمر.

2- سمكة تركب درّاجة
ذات يوم، نهضت الناشطة الحقوقية والمفكّرة الأميركية غلوريا شتاينم، وألقت خطاباً أمام نساء العالم، فقالت جملتها الشهيرة: - المرأة من دون الرّجل كالسمكة دون درّاجة.
منذ ذلك اليوم، قرّرت النساء الابتعاد عن الرّجال، وقلن كلّهنّ بكلمة واحدة: - نحن لا نحتاج إلى الرّجال.
بعد قرن واحد من مقاطعة النساء للرّجال، انقرض النّسل البشري، أثناء ذلك، خرجت سمكة من البحر الأبيض المتوسّط، وركبت درّاجتها في نزهة قصيرة في قرية سيدي بوسعيد التونسية، لكن للأسف لم يكن هناك إنسان واحد على قيد الحياة، ليصدّق ما حدث.

بول كلي ـ «أسطورةُ الزُّهُور» (مائية على مواد مختلفة، 1918)


3- سارق الأصابع
قال القاضي للمتّهم: - لمَ سرقتَ السّيد الذي تعمل في حديقته؟
أجاب المتّهم: - كنت أبحث في جيب معطفه عن أصابعي التي سرقها مني منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه إلى حديقته.

4- ساق أمّي خضراء
جاء إلى المطعم الذي أعمل فيه، طلب طبقاً من الخضر المطبوخة على البخار، كان شاباً وسيماً ومرحاً، وتظهر على وجهه ملامح ريفيّ حزين، طلّق قريته بالثلاث، وهبط إلى هذه المدينة الساحلية ذات الدّم البارد. عاد مرات كثيرة إلى المطعم الذي أعمل فيه. صرنا صديقين. سألني عن حياتي، فقلت له مازحاً: - حياتي معقّدة مثل طبق اللازانيا.
ضحك، وقال: - أنا حياتي بسيطة وحزينة مثل طبق الخضر المطبوخة على البخار، حين كنت طفلاً في الرابعة من عمري، فقدت أمّي، ماتت في حادث مرعب، كانت في شاحنة تقلّ العاملات من قريتنا إلى الحقول البعيدة، حين دهسهنّ القطار، ومزّق أجسادهنّ كما يمزّق الجزّار لحم الخرفان. عادت إلينا أمي في كيس، وجدوا رأسها مقطوعاً، فألصقوا إليه أطرافاً أخرى، وقالوا: - هذه جثّة أمّكم. بكى أبي وأخوتي، أمّا أنا فبقيت أجسّ ساقيها، وقلت لهم ببراءة طفل في الرابعة من عمره: هذه ليست ساق أمّي. كانت ساق أمي خضراء، تنبت فيها شجرة من عروق خضر، منذ ذلك اليوم كنت كلّما زرت مقبرة قريتنا، أبكي على قبور كلّ النساء اللواتي متن في الحادث مع أمّي. كانت قصّته حقاً حزينة، لكنه ابتسم لي، وغادر المطعم ذلك اليوم دون أن يأكل شيئاً. ثمّ عاد بعد أيّام، ومعه عجوز أوروبيّة تبدو في العقد السابع من عمرها. قال: - هذه حبيبتي غلوريا من السويد. ضحكت في سرّي، وقلت: مسكين، دفن شبابه في جسد عجوز، لأجل الفيزا اللعينة. كنت أراقبهما من نافذة مطبخي، وأضحك من انسجامهما المثير للاستغراب. حين حملت إليهما طلبهما: طبقيْ خضر مطبوخة على البخار وكأسي عصير، وانحنيت لأضعهما أمامهما، رأيت ساق غلوريا العجيبة، والتي تخرج منها شجرة من العروق الخضر، لحظتها تحوّلت الضحكة الساخرة داخلي إلى دمعة خضراء كبيرة، حاولت إخفاءها، لكنها سقطت في طبق صديقي.

5- ملخّص الصراعات البشرية
جاؤوا إلى إنسان أسير، فكّوا قيد يده، وربطوا عقله.

6- قتلة السهرورديّ
هرب السهروردي من دمشق إلى مدينتنا، بعد أن سمع أنّ صلاح الدين الأيوبي أمر بقتله. جاء بجبّته الخضراء المرقّعة، وكيس المخطوطات الحمراء الذي كان يحمله على كتفه الهزيلة، فعبر الأمكنة والأزمنة ولجأ إلى إحدى الزاويا في مدينتنا. ظنه الناس مجنوناً، لكن حين رأوه يقرأ مخطوطاته قالوا هذا شيخ علم هرب من الحرب في سوريا، فأخذوا له طعاماً وملبساً، لكنه اعتذر عن قبولها، وحتى يؤكد لهم أنّه لا يحتاج مساعدتهم، أخرج من جيبه لؤلؤة تساوي ثروة وحطّمها أمامهم. فقالوا إنّ الرّجل عرّاف جاء ليخرج الكنوز من مدينتنا، وتسلّلوا إليه ليلاً كالصّراصير، حاملين خرائط كاذبة لكنوز لا وجود لها إلّا في خرافاتهم. حاول السّهرورديّ إقناعهم بزيف ما يدّعون، لكنهم أزعجوه، وشوّشوا لحظات صفائه وتأمّله في ملكوت اللّه، وخرّبوا شرنقة عزلته بتطفّلهم. فلم يجد من حلّ سوى أن يحرق مخطوطاته أمامهم، ويذري رمادها في الرّيح، فقالوا إنّ الرّجل أخطر ممّا نتصوّر، فما هو إلا جاسوس خطير، فقال لهم: - هل تملكون أسلحة ممنوعة دوليّاً لأتجسّس عليكم؟ قالوا: - إذن أنت لصّ متخفّ في جبّة شيخ. قال: - وهل عندكم أثمن من اللؤلؤة التي حطّمتها، ومن المخطوطات التي أحرقتها؟. قالوا له: - من أنت إذن؟ - أنا السّهروردي. لحظتها أصبح كلّ واحد منهم «الظاهر الأيوبي»، أسروه، وعادوا به من الأمكنة والأزمنة التي عبرها، وفي الطريق قالوا له: - هل عرفت من نحن؟ قال: - أنتم الجوع والعطش والهذيان والأشياء التي اخترتهما لموتي. قالوا: - قل أشهد أن لا إله إلّا اللّٰه، وسنكون لك شراباً وطعاماً. قال: - لا أهضم من ينطق بكلمة نور، وقلبه يشير إلى الظلمة. نظروا إلى السهرورديّ، فلم يجدوا غير جبّته الخضراء المرقّعة، تعجّبوا، وقالوا: - هل كنّا نحاور جبّة السهرورديّ؟. ثمّ سألوا الجبّة: - أين الجسد الذي كان فيك؟. فقالت: - وماذا كنتم تأكلون طوال رحلتكم إلى الماضي؟

7- حفنة قش لحصان طروادة
حين أدخل سكّان طروادة الحصان الخشبيّ العظيم الذي تركه الجيش الإغريقي على باب مدينتهم، وكانوا مبتهجين بانتهاء الحصار الإغريقي لمدينتهم. كان الصبيّ ريتسوس يمدّ حفنة قش للحصان الخشبيّ العظيم، حتى بعدما خرج من جوفه الجنود الإغريقيون ليلاً، وفتحوا أبواب طروادة لزملائهم المختبئين خلف الهضاب المحيطة بالمدينة. وحتى حين أحرق الإغريق طروادة، وسبوا نساءها واستعبدوا رجالها، ظلّ الصبيّ ريتسوس يأتي كلّ يوم من بيته الفقير، ويقدّم حفنة قشّ للحصان الخشبيّ العظيم.

8- رحلة جمل بروطة
نزل جملٌ من الجنوب التونسيّ إلى العاصمة، وفي طريقه مرّ بصديق قديم له في القيروان، كان يشتغل في برّوطة، اقترح عليه أن يشربا كأسيْ شاي معاً، قال جمل برّوطة لصديقه: - كيف أدركتني في هذا المكان النائي من العالم؟ - لكن القيروان ليست بعيدة عن الجنوب التونسي. - أمازلت تتذكر القيروان؟ ودمعت عينا جمل بروطة حين ذكر اسم القيروان، وقال لصديقه جمل الجنوب: - أتتذكّر اليوم الذي التقينا فيه في القيروان ونحن صغيران، ثمّ فرّقتنا الأيام. أنا من يومها سافرت على صوت المياه إلى أماكن لا تخطر على بال جمل في هذا العالم، رغم أنني كنت أسافر مغمض العينين. في رحلتي، مررت بواحات زرقاء تحيطها بحيرات ساحرة تسبح فيها بجعات ذهبية، ومررت فوق جسور عالية حيث تمرّ من تحتها أنهار عظيمة، ومررت بشلالات نازلة من السماء يخال لمن يعبرها أنه غيمة، وفي رحلتي نبتت لي أجنحة بيضاء، وحلّقت بها بين الغيوم، وكنت أرى بلادنا الأولى الصحراء الكبرى مجرّد وسادة بنية ملقاة على سرير الأرض...
ظلّ جمل بروطة يتحدّث بحماس عن رحلته المائيّة العجيبة بين الأرض والسماء، وصديقه جمل الجنوب يصغي إليه بإحساس معجون من شغف وحزن، لم يشأ أن يقول له أنّ رحلته الطويلة تلك على صوت المياه لم تكن سوى ملايين من الدورات حول مكان واحد. ورغم حزنه على حال صديقه جمل برّوطة، فإنه غبطه على وهمه العظيم.

9- المخطوط الأحمر الغامض
لا أحد يدخل من قرية النائحة الأولى إلى قرية النائحة الثانية، ولا أحد يدخل من الثانية إلى الأولى. تستطيع القول بلغة السياسيين أنّ العلاقات الديبلوماسية منقطعة بين القريتين، رغم أنّ جذور القريتين مشتركة، وسكانهما تناسلوا من الحيوانات المنوية التي قذفها نوح في رحم زوجته الكافرة. فقط يوجد رجل اسمه كعب الأحبار، له قدرة على التحوّل من إنسان إلى حشرة، يتسلّل من قرية النائحة الثانية إلى الأولى في هيئة يعسوب أو في هيئة دبّور أو نحلة أو فراشة، فيملأ رأسه بالقصص، ويعود إلى قريته ليتجشّأها على مسامعهم.
في إحدى المرات، رأى كعب مخطوطاً له غلاف أحمر، في مكتبة كبير الأحبار، كلما قرأه بكى وضحك في وقت واحد. استغرب كعب من أمر المخطوط، وحاول أن يقرأه وهو متقمص دور حشرة تحطّ على كتف كبير الأحبار، لكن الحبر كان يبعده عنه بمروحة الريش التي كان يضعها قربه. أخيراً، اهتدى إلى حيلة أوصلته بيسر إلى المخطوط دون أن يلحظه كبير الأحبار، فتقمّص دور أرضة، وتسلل إلى صفحات المخطوط الأحمر، وقرأه في ليلة واحدة. بعد ذلك، أصبح كعب الأحبار يحكي لأهل قريته قصصاً غامضة، وكان أثناء حكيه يبكي ويضحك في وقت واحد، والناس حوله يستغربون من تصرفاته الغريبة هذه، ورغم ذلك فهم لا يفوّتون قصّة واحدة من قصصه التي لا يفهمون منها شيئاً، ثمّ إنهم أصبحوا يبكون ويضحكون مع كعب الأحبار، دون أن يفهموا لم يفعلون ذلك.

(*) مقتطفات من كتاب قصصي بالعنوان نفسه، صدر أخيراً عن «زينب للنشر والتوزيع»، تونس