تمثّل زينب التوجاني (مواليد باجة ــــ 1978)، الجيل الجديد من الباحثات التونسيات في مجال الحضارة العربية الإسلامية، وهي من الجيل الثالث للباحثين في الدراسات المتعلقة بتاريخ النبوءة والقرآن وقراءات النص الديني الذي اشتهرت به الجامعة التونسية من خلال مجموعة من الباحثات مثل نائلة السليني، وآمال قرامي، وألفة يوسف، ولطيفة الأخضر وناجية الوريمي... أستاذة الحضارة في كلية الآداب والفنون والإنسانيات في «جامعة منوبة»، والاختصاصية في تحليل الخطاب الديني، أصدرت أخيراً كتاب «الثواب والعقاب في كتب تفسير القرآن» (مؤسسة مؤمنون بلا حدود). التوجاني أيضاً ناشطة ضمن جمعيات المجتمع المدني ومساهمة في الحراك الثقافي والاجتماعي الذي تعيشه تونس منذ سقوط النظام السابق. أسهمت في العديد من البحوث المنشورة من بينها «منهجيّة التكفير في مدرسة أهل الحديث» و«في مسألة رؤية الله السعيدة»، و«حدود الله في خطاب الإسلام السياسي المفهوم ومآزقه الأنطولوجية»، و«مفهوم تطبيق الشريعة في فكر دعاة الإسلام السياسي، مقاربة نقدية»، و«قراءة في كتاب «الوأد الجديد»» لزهية جويرو و«النسوية الإسلامية»... كما أسهمت في الندوات العلمية والثقافية داخل الفضاء الجامعي وخارجه، ولها مقالات رأي في تفكيك خلفيات خطاب الإسلام السياسي والمساهمة في نصرة الحريات والمساواة والدفاع عن الفكر النقدي والعلمانية. يمكن اعتبار التوجاني «الحفيدة» العلمية لرواد الدراسات الإسلامية المتخصصة في قراءة النص الديني مثل الراحل محمد الطالبي أحد مؤسسي الجامعة التونسية، وعبد المجيد الشرفي رئيس أكاديمية «بيت الحكمة» في تونس. لكن ما يميزها عن باحثات أخريات هو انخراطها ودفاعها عن الحريات وعن قضايا المرأة. في هذا الحوار، تتحدث زينب التوجاني عن عقبات مشروع التحديث وسر العودة إلى المقدّس الديني وصعود الحركات الإسلامية وحقيقة المشروع البورقيبي في تونس الذي أسسه الزعيم الحبيب بورقيبة لتحرير المرأة ونشر التعليم.
زينب التوجاني: ولوج النساء إلى معركة إنتاج المعرفة وإعادة قراءة التراث هو النتيجة الطبيعية لسياسة الدولة الوطنية


هناك اهتمام كبير في السنوات الأخيرة بدراسة الإسلام الأوّل؛ هل تعتقدين أن بنية السّلطة العربيّة ما زالت محافظة على الجوهر نفسه منذ سقيفة بني ساعدة؟
- يعود الاهتمام الكبير بدراسة الإسلام الأوّل لمحاولات الباحثين والباحثات المعاصرين تفكيك أصول بنية السلطة وأسسها البسيطة المكونة لتاريخها والمفسرة لهذا الصراع الدامي المتواصل الذي يحول دون تركيز دول حديثة قوية وصلبة. فالصراع حول السلطة بدأ منذ فترة الدعوة المحمدية لأنّ الدعوة الدينية في البداية لم تنتشر عبر الإقناع فقط. ولولا هجرة النبي وغزواته وتحالفاته السياسية، لم يكن للدين الجديد أن تعلو كلمته بين العرب. ولذلك، فقد ارتبطت منذ البداية مسألة الدين بالدولة لأنّ التجربة الأولى لدولة النبي كانت في المدينة، وفيها كتب أول دستور في الإسلام هو صحيفة المدينة ونظمت الشرائع وضبطت القوانين المسيرة لدواليب هذا المجتمع الجديد المبني على أسس غير قبليّة والمنصهر وراء دعوة النبوة، حاملاً شعار التوحيد. وهي التجربة النّواة التي تكمن في كلّ الحركات الجهاديّة الرّافعة للواء التوحيد والسّاعية للاستيلاء على الحكم. لذلك مثلت دراسات الإسلام الأوّل ليس فقط مجالاً معرفيّاً علميّاً، بل ضرورة من ضرورات العصر الذي نعيش فيه عودة الديني بقوة وصعود إيديولوجيات الحركات الجهادية المستمدة من فكرة الدعوة النبوية الأولى شرعيتها وحجيتها. أما الصراع حول الخلافة في سقيفة بني ساعدة، فإنه مؤسس لانشقاق عميق في الضمير الديني الذي جمع المسلمين للمرة الأولى على أسس غير قبلية. فقد كشف ذلك الصراع بين الأنصار والمهاجرين من جهة، وبين الأوس والخزرج من جهة ثانية، والأمويين وبني العباس من جهة ثالثة، طبيعة العنصر القبلي الذي يحرك الصراع حول السلطة والذي تغلب على الديني وإن تقنّع به. لقد عادت صراعات بني هاشم وبني أمية التي حسمها عمر بن الخطاب لفائدة أبي بكر الصديق، مستغلاً انشقاقاً داخلياً في صفوف الأنصار. وبتغييب علي بن أبي طالب عن هذا الاجتماع التأسيسي، بدأت شرارة مظلومية لم تنطفئ إلى اليوم ونتج عنها جرح عميق لم يندمل. وتتالت الفتن بسببه وتأججت بالقتال بين الإخوة الذين كانوا بالأمس يقاتلون في سبيل الدين الجديد، تدفعهم نبوة واحدة وهدف واحد، لكنهم ما إن فقدوا الرجل الذي كان يجمعهم، حتى عادت صراعاتهم القبلية تتحكّم بهم وحاولوا أن يعوضوا النبيّ بالكتاب، فجعلوه ضامناً لوحدتهم وتجمعوا حوله من جديد، لكنهم مرة أخرى افترقوا في تأويله وفهمه حسب خلفياتهم السياسية ومصالحهم المذهبية. لذلك، فإنّ دراسة هذا التاريخ الأول يفتح أعيننا على كيفية نشأة المذاهب المتقاتلة إلى اليوم وكيفية نشأة الطوائف وماهية الصراع وعلاقته بالتاريخ وكيف حاولت المؤسسة الفقهية أن تتحكم به باحتكار الشرعية وكيف تورّطت في استلاب العقل والقضاء على الفكر العربي والنزعة العقلية والإنسية فيه. بدراسة تلك المرحلة الأولى، نجد أنفسنا نستوعب خلفيات الصراع الدائر في الأوطان العربيّة بين الشيعة والسنة وبين العشائر والقبائل وبين قوى التحديث وقوى الإسلام السياسي.

كنت من المتحمّسين للثورة التونسية قبل صعود الإسلاميّين؛ هل مازلت تعتقدين في الثورة؟
- الثورة التي نعنيها هي تلك التي تكون ثقافيّة أساساً، وهي ثورة على بنى الاستبداد التي فينا قبل أن تكون متجسّدة في حاكم مستبد أو حكم ديني أو حكم عسكري، فالحاكم العربي ليس سوى صورة للشعب الذي يحكمه وأعتقد أنّ الشعوب العربية لا تزال في مرحلة طفولتها تتحسّس طريقها إلى النضج والحرية. كي يتعلم الطفل، عليه أن يخطئ حتى يصيب. فهي لا تزال تنشدّ للأب الذي تطلب منه الحماية والرعاية وتتواكل عليه، فذلك ما يبرر هذه الأنظمة السياسية الأبوية، ولهذا فلا أزال متحمّسة للثورة بعمقها الانتروبولوجي والانطولوجي، أي ثورة أولاً على الذّات قبل أن تكون ثورة على الأب/ الحاكم وقتلاً له. حين تتحقق الثورةُ على الذات، سيتخلّص الأفراد تلقائياً من المخاوف والحاجة إلى الأب المستبدّ. ولذلك رأيتُ في ثورة الشعب التونسي على نظام بن عليّ ثورة قيم قبل كل شيء، فقد رفع الشباب شعارات الكرامة والحرية إلى جانب المطالبة بالعمل. أما قدوم الإسلاميين ليتكلموا باسم الثورة ويحتكروها، فلا يثنينا عن الإيمان بدينامية التاريخ وحدث الثورة، فلا الأحداث الحالية باقية ولا الشعب التونسي قابل بما يجري حوله وبصعود الإسلاميين للحكم، والدليل على ذلك تراجع التصويت لفائدتهم تدريجاً، وفقدانهم الثقة والتعاطف اللذين كان المواطنون يشعرون بهما نحو بكائياتهم وتظلّمهم من السجون والمنافي والملاحقة الأمنية أيام الحزب الواحد.
لكنّ ثورة بهذا المعنى تتطلب من الفاعلين الوعي بها وبدوافعها وبغاياتها، وتتطلب خسارات فادحة، فأوروبا التي ثارت على الحكم بالحق الإلهي، دفعت ثمن ذلك التحرّر وأنتجت فكراً تنويرياً. والثورة إن آمنا بها أو لم نؤمن، هي حركة في التاريخ تتوافر لها ظروف تحفّزها فتكون. ولذلك نرى أنّ واجب النخب فهم هذه الحقائق التاريخية: ارتفاع نسب العاطلين الحاصلين على شهادات جامعية، وارتفاع نسبة الإناث بين هؤلاء العاطلين، واختلال توزيع القيم بين أفراد المجتمع بما لا يناسب الأدوار الجديدة التي فرضتها العولمة، فتجد قيماً ذكورية سائدة في مجتمعات ريفية تلعب فيها النساء دوراً أساسياً في إعالة الأسر. وتوافر الحواسيب واتصال أكثر الفئات تهميشاً عبر الشبكات الاجتماعية بالأخبار، يكشفان عن حياة ممكنة أخرى تجعل هؤلاء يطرحون أسئلة عن العدالة والحظوظ المتكافئة. وبذلك، فإن كلّ بنى الأنظمة الأبوية لم يعد بإمكانها الصمود أمام هذا الواقع الجديد الذي لم يعد بمقدور الدولة فيه أن تتحكّم بمواطنيها كما كانت تفعل حين كانت تسيطر على وسائل الإعلام وتتحكم بها. فثورة رقمية تجلب معها بالضرورة ثورة قيم جديدة وضغوطاً اجتماعيّة لإعادة توزيع السلطة من جديد. لكن هل تتجه هذه الثورة نحو علمنة المجتمع العربي وتحديثه أم صوب أسلمته؟ السؤال هنا مرتبط بالوعي والإصرار على الهدف، وأعتقد أن القوى الحداثية تصارع بكلّ قوتها من أجل إنقاذ المصير المشترك وأنّ عقبات الإسلام السياسي طبيعية، لكن الإرث التونسي وإرادتهم القوية على التحديث والتقدم سيجعلهم قادرين على زحزحتها والتغلب عليها.

بعد «14 جانفي»، عرف الشارع التونسي ظواهر متّصلة بالتّدين مثل الصلوات الجماعيّة في الشارع، الاعتداء على الحريّات، الحجاب، النّقاب... هل كانت هذه الظواهر طارئة على المشهد التونسي أم هي ترجمة لما كان ممنوعاً؟
- التدين التونسي متنوع المظاهر وعميق في آن، تؤكد ذلك منزلة «الزيتونة» وعلمائها لا عند التونسيين فحسب، بل حتى في العالم العربي والإسلاميّ. لكن التدين التونسي له خصوصيته، فهو مزيج من العادات القديمة الأفريقية والبربرية وحتى بعض العادات التي تعود بنا إلى ديانات قديمة جداً كعبادة الآلهة الأمّ. ويتجلى ذلك في طقوس الزواج والولادة والحلي التقليدي التونسي: السمكة والعين والخمسة وغير ذلك مما يخزن تديناً عميقاً متنوعاً. ولذلك، فإن التونسيين بطبعهم ميالون إلى الإيمان بقدرات الغيب منذ أقدم العصور، وهم قد امتزجت في ممارساتهم عناصر عديدة، بعضها قد نرجعه إلى تأثير المسيحية واليهودية والتشيع الذي عرفه التونسيون مع الدولة الفاطمية. وعندما استقر المذهب المالكي، امتزج كل ذلك الموروث وصار مضمناً في ثقافة التونسيين الشعبية وفي تصوراتهم للحياة والوجود. لكن الذي طرأ منذ الثمانينات هو مجيء تيّار صحوي يُدخل قيماً جديدة قادمة من خارج البلاد تكفّر التونسيين وتُعتبر تلك العادات والموالد والأضرحة والطقوس والأعراس والأفراح والمآتم خارجةً عن السنة الحميدة، وتقترح عليهم سنناً جديدة وتديناً على الطريقة التي تراها جماعة الإخوان مناسبة وتتمثل في فرض الحجاب على النساء وفي العبادات الفرجوية التي لها رمزية سياسية تعبوية. لذلك، فإن الحجاب والنقاب والصلوات في الشارع ليست تعبيراً عن حقيقة ما يرغب فيه التونسيون وكان ممنوعاً عليهم قبل الثورة، بل هو تعبير عن انتماء سياسي لجماعة كانت أنشطتها ممنوعة قبل الثورة.
يجب التمييز إذن بين أمرين: بين علامات التدين وعلامات الانتماء لجماعة الإخوان، وهما أمران متداخلان لأنّ الإخوان يعتمدون على التدين العفوي عند الناس لنشر دعوتهم وكسب المزيد من الأتباع. أما خطاب تجفيف المنابع، فهو خطاب الحركة الإخوانية لأنّها تعتمد على المظلومية لكسب التأييد، فتروّج أن النظام السابق للثورة كان مناهضاً للدين وللتدين وكان يمنع الناس من الصلاة ومن العبادة وهذا الأمر فيه نظر. فالنظام السياسي قبل الثورة عالج معضلة الصحوة معالجةً أمنيةً بأن ضيّق الحريات الدينية ولاحق الرموز الإخوانية، واعتدى بذلك على بعض الحريات كرغبة النساء بتغطية شعرهن والصلاة في جماعة وفتح المساجد وتربية الأطفال. لكن الباحث في تاريخ هذه الجماعات، يمكنه أن يلاحظ أنها تروّج خطابها السياسي عبر هذه الرموز بالذات، أي عبر نشر الحجاب الذي يمسي علامة انتماء سياسي، وعبر توظيف المساجد لتمرير الدعوة السياسية وعبر تجنيد الأطفال لخدمة الجماعة الإخوانية.
قدوم الإسلاميين ليتكلموا باسم الثورة، لا يثنينا عن الإيمان بدينامية التاريخ وحدث الثورة

فقد كانت الدولة إذن في تنافس مع نمط يهدّد وجودها هو نمط الخلافة الإسلامية وعالجت ذلك التهديد معالجةً «قمعية». لكن تلك المعالجة أججت خطاب المظلومية لدى هؤلاء. ويمكننا عندئذ أن نقارن بين هذه المعالجة القمعية وبين معالجة حقوقية كما هو الشأن في أوروبا، فسنجد أن استقطاب الدواعش يتم عبر هذه الآليات وعبر توظيف المساجد والجماعات السلفية التي تجتمع حول طقوس في ظاهرها تعبدية. إذن، فإن هذه الجماعات التي تسعى لفرض دولة دينية تزداد قوة في الحالتين إذا قمعت تتظلم، وإذا تركت لها الحرية فإنها تتمدد وتتمكّن.
أما في تونس بعد الثورة، فلم تقمع الحكومات هذه الجماعات وإنما واجهت صداً كبيراً من قوى المجتمع المدني والاتحاد العام التونسي للشغل. وهذه القوى ساهمت في تقليص نفوذها والحد من تأثيرها، فعلى المجتمع الحي أن يستعدّ دائماً ليقاوم هذه الظواهر المخلّة بآداب الحضارة والدين معاً، لأن العبادة الحقيقية في الإسلام وبقية الأديان التوحيدية وحتى غير التوحيدية علاقة بين المؤمن وربه. وهي علاقة خاصة وحميمة. أما تحويلها إلى مشهد اجتماعي، فهي مسرحة رخيصة وتوظيف سياسي لا رابح منه سوى أصحاب النفوذ وقادة الجماعات المخدرة بالدين.

راهن الزعيم الحبيب بورقيبة على التحديث ومدنية الدولة، لكننا نرى اليوم انتكاساً لهذا المشروع. هل تعتقدين أن مشروع بورقيبة كان مُسقطاً، لذلك لم يتجذّر في المجتمع التونسي؟
- المشروع البورقيبي في الحقيقة مشروع جيل بناة الدولة الوطنية الحديثة، ولم يكن مسقطاً على التاريخ التونسي الحديث، لكنه كان جرأة وشجاعة لسياسي حكيم له بعد نظر. أولاً، لقد راهن بورقيبة على المرأة التونسية بتسريع إصدار مجلة الأحوال الشخصية وتمكينها من جملة حقوق تحفظ كرامتها واستقلاليتها على المجتمع نفسه على الأقل بالقانون، ومكّن وطنه بذلك من فرصة النجاة من مكر التاريخ، فقد برهنت المرأة التونسية المتعلّمة الحرّة أنّها تستحقّ الرّهان على قدراتها. وأعتبر بلا مبالغة أنها أنقذت الوطن، ووقفت ضد كل المحاولات التي سعت إلى المسّ بمدنيته والعودة به إلى ما قبل مجلة الأحوال الشخصية. وقد فهمت حكومة الترويكا ذلك وفهم جل الفاعلين أنه لا مساس بحقوق النساء، بل إنهن يطالبن بالمزيد. ولذلك فإن ما نراه اليوم ليس انتكاساً للمشروع البورقيبي، بل اختباراً للمشروع البورقيبي وللقوى الحية في البلاد. ثانياً، إن اللحظة التي اتخذ فيها بورقيبة قراراته الجريئة التي أسهمت في الفصل بين الدين والدولة وتقليص سلطة الزيتونيين، كانت ناتجة عن مسار تطور طبيعي بدأ قبل بورقيبة بسنوات عدّة. فحركة الإصلاح في تونس بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر وقد لعب الزيتونيّون أنفسهم دوراً فيها. ولنذكر على سبيل المثال مساهمتهم في تأسيس المدرسة الخلدونية عام 1896 لاستكمال المعارف العصرية التي لم تكن تدرّس في جامع الزيتونة. وقد وضع كبار المشايخ الزيتونيّون أبناءهم في التعليم العصري وفي المدرسة الصادقية بحثاً منهم عن آفاق أخرى لهم غير تلك التي يتيحها التعليم الزيتوني. كما أن دولة الاستقلال أنشأت المدارس العمومية في كل أنحاء البلاد، وكان من الطبيعي إدخال المعارف العصرية واللغات والمهارات التي ستمكّن الشباب والشابات من أدوات البناء الجديد على أسس عصرية. فمشروع بورقيبة في الأصل ثمرة جهود مصلحين تونسيين سبقوه إلى وضع اللبنات الأولى، ولا يمكننا أن نغفل جيل الثلاثينات وفكر الطاهر الحداد بشكل خاصّ، والرغبة التي صاحبت ذلك الجيل في التشبع بمعارف وعلوم جديدة عصرية، فكيف يمكن أن نعتبر مشروعاً كهذا مسقطاً والبلاد في أمس الحاجة إلى تعميم التعليم وعصرنته وترسيخ القيم الوطنية والتطلع نحو بناء ثقافة جديدة تواكب تطور الحياة؟ وكيف يدعي البعض أنها تجربة لا تاريخ لها وهي تعود على الأقل إلى ابن أبي الضياف (توفي عام 1874) ومحاولاته تقييد الحكم بالقانون باكراً.

اهتممت في كتابك الجديد بمسألة الثواب والعقاب في تفاسير القرآن، ألا ترين أن الأزمة الحقيقية اليوم هي مسألة التأويل وأن داعش والتنظيمات المتطرفة هي نتاج هذه الأزمة؟
- الأزمة الحقيقية اليوم كونية من جهة وثقافية من جهة ثانية. على المستوى العالمي، هناك نزعات سيطرة ونفوذ تحاول أن تستأثر بالثروات وتتحكم بالشعوب وتجبرها على الخضوع لقوانين السوق المتوحشة. هنا يجب عقلنة هذه الثقافة العالمية وأنسنتها لأنها تغذي الكراهية والحقد في الطرف الضعيف اقتصادياً وفكرياً. أما أزمة الثقافة العربية، فإنها تتجاوز التأويل إلى الحاجة إلى تأسيس جديد. من خلال بحثي في تفاسير القرآن، تبيّن لي وجود خطاطة عند جلّ المفسرين هي بمثابة تأويل عميق اتّجهت نحوه الثقافة العربية الإسلامية. ويتعلق هذا التأويل بجعل هذه الحياة على الأرض مجرد اختبار لا أكثر، بمعنى أن الوجود امتحان وأن الإنسان فيه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فالله خالقه يملكه روحاً وجسداً ويملك مصيره بعد موته وبعثه من جديد. إن التأويل الإسلامي متفائل بخصوص النهاية التي تنتظر المؤمنين، ولكنه في الحقيقة تفاؤل مبالغ أخفى حقيقة مأساة الوجود من جهة وحقيقة الشرور التي يقترفها الإنسان باسم الدين من جهة ثانية. مثلاً الموتُ في الثقافة الإسلامية ليس عقاباً ولا شراً. ولذلك يطلب من كل مؤمن أن يسلم بحدث الموت ويقبله. هذا من جهة أمر إيجابي لأنه يقدم معنى للحياة ويخفف وطأة عبثها ورهبة الموت، لكنه من جهة ثانية سبب كل التبريرات التي تقدمها الحركات المتطرفة للمنخرطين فيها والتي بها يفجرون أنفسهم، من دون أيّ تردد. ذلك أنّ الموت يمسي حياة أخرى ويفقد كل دلالات الشر المتعلق به، بل إن التخويف من الحساب والعذاب الذي ينتظر الآثمين يجعل الشاب يفكر في طريقة سهلة للتخلص من كل ذلك، فيربح بضربة واحدة نجاته الأخروية من دون عناء المرور بعذاب القبر أو عذاب الصراط أو الجحيم. فها هنا نتبين أنّ بعض المفاهيم في التصورات الدينية لا يمكن تأويلها بطريقة أخرى. فمهما فعلنا للخروج من التشدد، سنجد الإسلام الأكثر تسامحاً يعتبر أن المسلمين وحدهم الناجون، وأن أهل الكتاب توعدهم ربهم بعذاب أليم. وها هنا السؤال: هل يتعلق الأمر إذن بالتأويل أم يتعلق بإعادة التأسيس؟

التدين التونسي له خصوصيته، فهو مزيج من العادات القديمة الأفريقية والبربرية وحتى من الديانات القديمة جداً


ونعني بإعادة التأسيس القطيعة الابستيمولوجية التي لا تنتج سوى بتراكم معرفي هائل من جهة وبوعي بضرورة عدم أخذ القصص القرآني على محمل الجد من جهة ثانية. فكل ما في قصص القرآن هو في الحقيقة نماذج كونية عرفتها كل الحضارات القديمة، لنأخذ مثلاً: قصة نوح، نجدها في الأساطير البابلية بالتفصيل. ولنأخذ الحدود التي تكون جزءاً من الشريعة الإسلامية، فإننا نجدها منذ تشريعات حمورابي بشكل يكاد يكون متطابقاً مثلاً في ما يتعلق بالزنا والنفقة والطلاق. ولنأخذ مثلاً قصة النبي أيوب، لا يكاد يخلو أي زمن من قصة شبيهة لها. فلنا قصة عند المصريين عن أيوب، ولنا قصة عند البابليين عن أيوب، ولنا قصة عند اليهود مدونة في سفر من أسفار العهد القديم عن أيوب. ولذلك فهذه القصص المسماة نبوية أو قصص القرى إنما هي موروث كوني لا يخصّ المسلمين وحدهم، بل إن العلم الحديث أثبت أن بعض الأسماء التي نعتقد أنها وجدت لم توجد قط، وربما وجدت في غير الزمن الذي تروي القصة القرآنية أنها وجدت فيه. ولذلك نتساءل: هل هي قضية تأويل النص القرآني ثم نتصارع حول التأويل أم هي قضية أعمق من ذلك؟ إنها قضية في نظرنا أعمق من ذلك تتعلق بالنص في حد ذاته. على المسلمين أن يعترفوا أن النصّ القرآني هو في حد ذاته تأويل. بمعنى أنه إمكان من إمكانيات النصّ يحتوي على رؤية خاصة للوجود وأن مكوناته يتشارك فيها مع ثقافات أخرى، لكنه يختلف عنها في توجيهها صوب وجهة فهم معلومة. ولذلك، كيف نتعامل مع هذا النص؟ هنا نقترحُ أن نخرج من تلقِّيه على أساس أنه يخبرنا بالحقيقة التاريخية ونتلقاه جمالياً وانتروبولوجياً، بمعنى نعيد لا تأويل ما فيه على أساس أن له مرجعية في الواقع، بل نعيد تأويل ما فيه على أساس أنّه تمثيل ومرجعية في الخيال البشري الخلاق، وعلى أساس أنه يرمز ويوحي. ففيه طاقة شعرية كامنة وفيه قوة إيحاء. بذلك يمكننا إعادة التأسيس. أي نخرجه من دائرة الحقيقة المطلقة، لنضعه في دائرة الممكن ونزحزحه من معتقداتنا الثابتة لنضعه في دائرة التّنسيب. وعندها سيتمكّن المسلم من أن يرى في القرآن بعداً روحياً أعمق من الجانب السياسي والتشريعي الزائل. ذلك البعد الذي يصله لا بالمطلق الخارج عنه، بل بالمطلق الذي في داخله. أما التشريعات والحياة السياسية، فإنها تعتمد على التعاقد البشري الذي قد يتغير من حين إلى آخر. ولذلك لا نرى حلاً سوى العلمانية أي فصل الجانب الروحي تماماً عن جانب التشريع، وجعل البعد الديني خاصاً بين المرء وذاته، وجعل العلاقات البشرية خاضعة للقوانين الوضعية.

زينب التّوجاني تقريباً هي أصغر الباحثات التونسيّات في مجال الدراسات القرآنيّة، ناجية الوريمي، زهية جويرو، آمال قرامي، بثينة بن حسين، ألفة يوسف، سلوى بالحاج، سهام الميساوي، نائلة السليني، هالة الوردي رجاء بن سلامة إلخ... هل نستطيع أن نتحدّث عن مدرسة تونسية نسويّة في هذا المجال؟
- درستُ في الجامعة التونسية في آخر التسعينات وهي فترة عصيبة على الحريات في المجتمع التونسي. لكني لم أشعر قط بفضل الحريات الأكاديمية وجرأة أساتذتنا واستقلاليتهم عن السلطة السياسية وأصالتهم الفكرية والحقوقية بوجود حدود للمعرفة ولا بخطوط حمر لطلب العلم. وبعض هؤلاء الباحثات كنّ أستاذاتي في كلية الآداب في منوبة، وهن اليوم زميلاتي وقد كنّ خير سند وقدوة لنا. وهن لا يبخلن على الأجيال الجديدة بالدعم لأنّهن يعملن من أجل قضيّة هنّ مؤمنات بها بصدق. إنهن يشكلن الأمن المعرفي التونسي في نظري وهن ثروة وطنية حقيقية. رغم كل ما قد يقال عن الصّعوبات التي تعانيها المؤسسات التونسية التربوية، إنّ في الجامعة التونسية أساتذة أجلاء غرسوا تقاليد أكاديمية وقيماً أصيلة كحب المعرفة والثقة بالذات ولم يميزوا بيننا على أساس الجنس قط، وبعضهم في غير اختصاص الحضارة وقد أثروا فينا أيما تأثير وحمونا من الاستبداد بكل أنواعه. لقد أورثونا سلاحاً هو المعرفة العلمية والنقدية لنقاتل به لأجل أنفسنا ولأجل وطننا. أمّا الأستاذ عبد المجيد الشرفي وهو المهندس الأوّل لاختصاص الحضارة في الجامعة التونسية، فقد ترك أثره البالغ في المجتمع لا في الجامعة فحسب، لأنّه حرص على النقل المعرفي وتكوين جيل من المدرسين والمدرّسات ولأنّه فكّر في تمرير المشعل إلى الأجيال التي ستأتي. وبذلك الالتزام وحده، أمكن لنا أن نجد دائماً دعماً في كلّ المراحل التي قطعناها في البحث والتدريس والنّضال من أجل أفكارنا في الجامعة والمجتمع، فالإيمان بالدور المجتمعي ليس فقط بالدور الأكاديمي، كسر حواجز الخوف وخلق ظروفاً لإنتاج المزيد من المعرفة. واليوم في تونس هناك بين جيلي كفاءات مؤنثة ومذكرة تعمل بإخلاص رغم الصعوبات من أجل التنوير والخروج من النفق المظلم. ولا تزال أجيال جديدة من الطلبة تتلقى هذه المعرفة العلمية النقدية كي تنضم إلى الحرب على الفكر الجامد والمطلق والوثوقية.
ولعلّ ولوج النساء إلى معركة إنتاج المعرفة وإعادة قراءة التراث هو النتيجة الطبيعية لسياسة الدولة الوطنية التي مكنت شرائح المجتمع من التعليم على قدم المساواة بين الذكور والإناث والطبقات الضعيفة والأوفر حظاً. ونحن نناضل اليوم يومياً من أجل الحفاظ على هذه المكاسب ودعمها من أجل توفير حظوظ للآجيال القادمة وغرس التفكير النقدي وتحقيق المزيد من العدل والمساواة والحرية لأنّ هذه القيم هي أسس استكمال المشروع التحديثي الذي بدأه التونسيون منذ القرن الثامن عشر.