هل يمكن لأيّ منّا الحديث عن أيّ شخصية دنيوية تاريخية ذات مغزى على نحو منفصل عن المتحدث والعصر الذي يعيشه والمبادئ التي يعتنقها؟ الكاتب هالفر موكزنس، وهو أستاذ دراسات العهد الجديد في «جامعة أوسلو» وعضو «الأكاديمية النرويجية للعلوم والآداب» يقول إن تفسير الروايات الكتابية ليسوع المسيح يتطلّب دائماً من القارئ عدداً من الاستراتيجيات التناظرية المعقدة: «ثمة حاجة إلى خيالنا الحالي من أجل فك شفرة القصة القديمة. ومن ثم فإنّ أي رؤية لمن كان يسوع وما بشَّر به تحمل علامات مواقفنا تجاه عالمنا وطرقنا في فهم أنفسنا ومجتمعاتنا وكوننا».كتاب «يسوع المسيح وصعود العصبية القومية: بحث جديد عن يسوع التاريخي» (توريس ـ 2011) يكشف عن العلاقة الحميمة بين خيال قومي ناشئ وتطوير روايات شخصية جديدة عن يسوع خلال القرن التاسع عشر. إن هذا الفحص المذهل لمزج آفاق الاعتبارات اللاهوتية الكلاسيكية الألمانية والفرنسية والبريطانية ليسوع وعلم التأويل الاجتماعي والسياسي لكل منهما لا يقدم فقط رؤى جديدة في تطوّر الدراسات التوراتية، بل يتحدّى كتاب السير المعاصرين ليسوع في مواجهة مبانيهم السياقية الخاصة وخيالهم الشخصي واستكشاف أجنداتهم وتوقعاتهم الجماعية الخفية، وإن لسياق اللاهوتيين المعاصرين أربعة جوانب على الأقل هي التجربة الإنسانية المعاصرة والموقع الاجتماعي والهوية الثقافية للشخص والتغيير في سياق ما.


يركز هذا العمل على كيفية تجلّي شخصية يسوع المسيح في مؤلفات أربعة مفكرين في الغرب هم الألمانيان ديفيد فريدريش شتراوس وفريدريش شلايرمخر والفرنسي إرنست رينان والاسكتلندي جورج آدم سمث.
يقول الكاتب إن يسوع فريدريش شلايرمخر كان معلماً بما يتوافق مع الدور الذي أداه المعلمون الألمان في حركة ألمانيا من أجل الاشتراكية الديمقراطية. مع ذلك، هو احتفظ بمكانة إلهية فريدة من خلال الادّعاءات بتفرّده وشخصيته الدينية غير العادية. لذلك، نرى انعكاس إعجابه بفريدريش بروسيا في عرضه ليسوع: كلاهما له رؤى لإنشاء دولة موحدة تتجاوز انقسامات الأرض والسياسة والقبائل.
يذكر الكاتب في هذا السياق أنّ كثيراً من الألمان في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر اتخذوا موقفاً مفاده أن المسيحية الألمانية يجب أن تتخلص من أي تأثير يهودي؛ على يسوع المسيح أن يكون أكثر ألمانيةً. ومن أجل تقديم حجة معقولة لهذا الموقف، تحول بعض العلماء إلى اقتراح السكان المختلطين في الجليل وأن يسوع لم يكن يهودياً [كذا!]، لكنه يتحدر من السكان المختلطين العائدين من الأسر الفارسي [الآري]. النتيجة النهائية أن يسوع ربما كان آرياً. ما جعل هذه الفكرة الخطيرة تنمّي التفكير العنصري في نهاية القرن التاسع عشر حيث لم يعد اليهود [بل قل: الأشكناز – ز م] ينتمون فقط إلى مجموعة دينية محددة لكن إلى عرق منفصل.
وجه الكاتب الانتباه إلى انتقال ألوهية المسيح عند شتراوس إلى الإنسانية كدولة ديمقراطية سياسية على عكس الدفاع عن يسوع باعتباره الرب كتأكيد «السلطة المطلقة للملكية على الشعب». كما يلاحظ استخداماته للجليل لتمييز يسوع عن معاصريه اليهود وتمييز المسيحية عن اليهودية. كما كان مبدأ تأكيد أن اليهود كانوا خصوماً وعصبيين على نحو ضيق. هكذا رأى شتراوس أن الإمبراطورية الرومانية عالمية وساهمت في صوغ دين يسوع الروحي الذي تخطى القبيلة والأمة. وفقاً لشتراوس، رفض يسوع المسيح السياسي لصالح مسيحانية العهد القديم الدينية - الأخلاقية التي دعت إلى «علاقة جديدة بالله، لم تعد علاقة العبيد بالسيد بل بالأبناء لأب».
في المقابل، كان يسوع إرنست رينان محاولة لتمثيل «المشرق الإيجابي» باعتباره مقدمة للذات الحضارية لمجتمعه الفرنسي. وقد طور رينان نظرية طوبوغرافية للدين وربط التلال الخضراء المورقة في الجليل بالانفتاح على يسوع، بينما جعل ظروف يهوذا الصحراوية الجافة سبباً لدين الفريسيين الجاف. كتب رينان مؤلفه بينما كان في سوريا وفلسطين في رحلة استكشافية محمية بالسفن الحربية الفرنسية لجمع المواد لمتحف اللوفر. يوضح الكاتب أن مثل هذه الحملات أنموذجية للاستعمار الأوروبي وكان الغرض منها بناء مجموعات كلاسيكية في العواصم الأوروبية لتأمين التراث الثقافي من اليونان الكلاسيكية وروما والأراضي المقدسة ومصر. لقد ادعت القوى الأوروبية العظمى حقوقاً لها في أن تكون الوارثة الحقيقية للمجتمعات الكلاسيكية ولم تظن أن السكان الحاليين في هذه المجتمعات يمثلون ثقافاتهم القديمة.
جورج آدم سْمِث مثّل في تصويره الرجولي ليسوع ليبراليةً بريطانية وأخلاقية فيكتوريانية


أما اللاهوتي الاسكتلندي جورج آدم سْمِث فقد مثل في تصويره الرجولي ليسوع ليبرالية بريطانية وأخلاقية فيكتوريانية. فقد سعى سميث إلى إعادة تشكيل يسوع المسيح أنموذجاً للشباب الإنكليزي. ولتحقيق هذه الغاية ركز على يسوع الشاب وشدّد على الحياة المنزلية المناسبة مع اعتبار الجليل «مرآة متخيلة لبريطانيا». صفاء يسوع الجنسي ورجولته وشجاعته في تجنب إغراءات حياة مدينة الناصرة كانت جميعها نماذج لعصر سْمِث للإمبريالية البريطانية وهي زراعة نخبة من الذكور الوطنيين الذين سيديرون أمور الإمبراطورية.
في كل الأمثلة السابقة، يكمن اهتمام الكاتب في دراسة العلاقة بين عمليتي التحديث في أوروبا في القرن التاسع عشر وهما صعود العصبية القومية في أوروبا، وظهور دراسات يسوع التاريخية، وكلاهما قوى حرجة ضد الملكية وشرعيتها المسيحية الدينية. من خلال وضع الشخص التاريخي ليسوع المسيح في بؤرة الاهتمام، انتزعت مثل هذه الدراسات السلطة من التعاليم العقِدِيَّة للمسيح في الكنيسة وتحدّت شرعية الكريستولوجيا للسلطة السياسية للملوك والحكام.
نهج الكاتب تجاه الأمة يتأثر بدراسات بندكت أندرسن حول المعنى الثقافي للقومية التي تؤكد طابعها التخيلي. اهتمامه بالمعنى الثقافي الذي تم إنشاؤه من خلال هذه النصوص، يقنعه بأن الدولة القومية لا يمكنها مواجهة التحديات العالمية اليوم وهو لا يخفي رغبته الصريحة في «تجاوز الأمة المتخيلة إلى نظام عالمي ما بعد وطني».
أما فصول المؤلف، فهي:
المقدمة
1) كتابة سيرة يسوع المسيح في زمن العصبية القومية.
2) الأرض المقدسة كوطن.
3) تخيل أمة. يسوع المسيح شلايرمخر معلم الأمة.
4) أمة بروتستانتية: شتراوس ويسوع المسيح للأمة الألمانية.
5) القريب والأجنبي: حياة يسوع المسيح في استشراق رينان.
6) أمة ذكورية: المشهد الأخلاقي والطبيعة القومية في مؤلف جورج آدم سمث «جغرافية الأرض المقدسة التاريخية».
7) يسوع المسيح أبعد من العصبية القومية: تخيل عالم مابعد العصبية القومية.

Jesus and the Rise of Nationalism: A New Quest for the Nineteenth Century Historical Jesus. i.b. tauris (2011). 272 pages. halvor moxnes.