ترصد سوسان جرجس في كتابها «المرأة الريفية وواقع تملّكها لجسدها» (دار نينوى- دمشق) وظائف جسد المرأة في المجتمع الزراعي وتأثير النظام البطريركي الذكوري في خصوصيات العيش والقيم والتحوّلات في ما يتعلّق بمسائل مثل العذرية، والحلال، والحرام، والشرف، والحجاب، والغواية، في قراءة انثروبولوجية تضع منطقة عكار في لبنان نموذجاً ميدانياً لأطروحتها، في إضاءة «هجانة التحوّل» الذي تعيشه المرأة والمجتمع نفسه في هذه الجغرافيا الريفية، ما بين الدلالات الرمزية الموروثة والتحوّلات المعيشية الراهنة التي طرأت على علاقة المرأة بجسدها، والصراع المحتدم بين التقاليد الراسخة والتثاقف التغييري في محاكاة الأنا والآخر. فامرأة سبعينيات القرن المنصرم، أو سليلة التفكير الإقطاعي لا تشبه حفيدتها اليوم. وتالياً، فإن هذه الدراسة محاولة لإماطة اللثام عن تمثلات الجسد الأنثوي الذي أُخضع تاريخياً لمنطق «الشرع والورع والعقل». وفقاً لسلّم القيم الأيديولوجية والدينية التي تنظر إلى المرأة ككائن دوني بالمقارنة مع الرجل، ترتبط صورة المرأة بـ «الرذيلة»، و«الإغواء»، و«الشهوة»، وإذا بها ضحية لإخضاع جسدها للحجب، وإما كشفه على لوحات الإعلانات. بمعنى أن «نظرات الرجال هي التي تصمّم أجساد النساء». بسقوط الحكم الإقطاعي ودخول الإرساليات الأجنبية إلى المنطقة، حدث تحوّل جزئي في واقع المرأة التعليمي، من دون أن تتمكّن من إزاحة الرقابة الاجتماعية التقليدية. لكن الحداثة والعولمة التقنية ستلعبان دوراً تأثيرياً في ثقافة المرأة الجسدية إلى حدّ ما، إذ بقي الجسد الأنثوي موضوعاً مقدّساً «لم تتهيأ بعد الأرضية الملائمة لظهوره في المجتمعات التقليدية».

عملت الباحثة الأنثروبولوجية اللبنانية ميدانياً في ثلاث قرى من «سهل عكار» هي «المقيطع»، و«الشيخ عياش»، و«تل عباس الغربي»، ضمن أطلس ثقافي يعتني بطبيعة الثقافة الجسدية لدى المرأة في سهل عكار وطبيعة العلاقة بهذا الجسد. يأتي مفهوم «الشرف» في مقدمة القيم التي تحكم حركة المرأة في سهل عكار بقصد حماية جسدها من أي انزلاقات أخلاقية خارج إطار الزواج، لكن هذا المفهوم يبقى نسبياً، من جيلٍ إلى آخر، لارتباطه بالتقهقر التدريجي لنمط الإنتاج الزراعي، كما بالوضع الإقليمي والأمني العام، وما يرافقه من حركات دينية متشدّدة. وستجد المرأة الريفية هنا متنفساً للتعبير عن ذاتها بسطوة العولمة التقنية التي أسهمت في فك الخناق التقليدي عن المرأة، وكسر الحاجز بين المجالين العام والخاص من جهة، وبين الجنسين من جهة ثانية: «أتاح العالم الافتراضي للكثير من نساء عكار فرصة للتحرّر من قيود المجتمع التي تثقل كاهلهن بكل الموروث الثقافي الذكوري». وتتوقف الباحثة عند التربية الجنسية في سهل عكار ووسائطها الحديثة في كسر عزلة الجسد الأنثوي الذي يُربّى بصورة سلبية تقوم على إنكار الجسد تناغماً مع قيم الحياء ودرءاً لما هو «عيب»، وخصوصاً بالنسبة لجيل حقبة السبعينيات وما بعده بقليل. وتُشدّد الرقابة أكثر في فترة البلوغ ورمزية «الحيض». لكن هذا القمع لا يمنع الجسد الأنثوي الريفي من التعبير عن نفسه لغوياً لإبراز الصورة الأنثوية المغرية أملاً في اجتذاب الجنس الآخر، باستعمال أزياء مثيرة تكشف مناطق الفتنة والغواية والإعلان عن الذات، بالإضافة إلى «استراتيجية استخدام الجسد كلغة «لصيد» الذكر بإبراز الأرداف والنهدين وطريقة المشي والنظرة». وتشير سوسان جرجس إلى أن ما تقوم به الفتاة في الواقع هو «إنكار لجسدها الواقعي، واستبداله بجسد هُوامي ناتج عن التمثلات اللاواعية التي غزتها وسائل الإعلام ونزعتها الاستهلاكية». هناك مسألة أخرى تُلقي بثقلها على المرأة الريفية، وهي العنف بأشكاله كنوع من السيطرة الذكورية التي تتمثّل بالعنف الرمزي (الاستهزاء، الإرغام على الصمت، الشتائم)، والعنف الجسدي، بوصفهما استعراضاً للفحولة يتخذ «طابعاً فرجوياً» يشفي غليل المؤدّب والمتفرج في آنٍ، وانتصاراً لذهنية بطريركية تعمل على مصادرة صوت المرأة باعتباره عورة، ما يفرض حبسها داخل المجال الخاص، فيما يرمز صوت الرجل العالي إلى أحقيته في الوجود ضمن المجال العام. واللافت أنّ هذه الثقافة لا تتكئ على أيديولوجيا الدين الرسمي أو النصوص المقدّسة بخصوص تاريخ الخطيئة بقدر ما هي ثقافة مجتمع زراعي، واستبطان لمعارف شعبية متداولة تهدف إلى تجريم الأنثى، أو وضعها في موقع الاتهام الدائم الذي يخوّل للرجل ممارسة السيطرة عليها بحجة الوصاية على متهمة، ما يؤدي عملياً إلى إقصائها عن اللغة والمعرفة، ذلك أن «أجمل حلية للمرأة هي صمتها». بمعنى آخر، فإن حضور المرأة لغوياً وكلامياً يهدّد حضور الرجل، ويتفرّع العنف الذكوري إلى أكثر من مسلك سلطوي، بينها «ضبط الغواية الأنثوية». إذ تشير الشهادات الميدانية إلى مخيال اجتماعي «يعظّم خطورة الغواية الأنثوية في زعزعة البناء الاجتماعي». لكن ما الرابط بين الذكورة والحجاب؟ تفرّق الباحثة بين «الحجاب الزراعي» والحجاب الشرعي الإسلامي، كمحصّلة لتحولات بنيوية طرأت على مجتمع عكار، ذلك أن الأول كان مرتبطاً بوظيفته الوقائية والعملية ضمن نمط الإنتاج الزراعي، فيما يعمل الثاني على إغلاق الجسد الأنثوي ليؤكد على حرمته وضرورة مراقبته ذاتياً وغيرياً. في الفصول اللاحقة، نقع على مفاهيم أخرى ترضخ تحت وطأتها المرأة الريفية في ما يخصّ الجنسانية والجندرية وعقد الزواج «مهر الزوج مقابل فرج المرأة»، وصورة للستر وطاعة في الفراش، مروراً بمعنى اللذة ومدلولاتها السلطوية «إن الذكورة تعني الفحولة والفتح والمبادرة وحتى العنف. أما الأنوثة فهي الهشاشة والطاعة والقبول والثقوب القابلة للاختراق» تقول. وتختتم الباحثة أطروحتها بقراءة مفهوم العذرية، وآليات الحفاظ عليها، والبكارة وليلة الزفاف وتحولاتها، والتعاطي الاجتماعي وتحولاته مع انتهاك العذرية. هذا بحث مثير يطمح إلى «كسر جدار الصمت حول أكثر المواضيع قدسية في المجتمعات البطريركية، والريفية منها تحديداً».