لا يرتكز صالح الأشمر في مجموعته الشعرية الأولى «حب لكل الفصول» الصادرة حديثاً عن «منشورات الجمل» إلى ماضٍ شعري أو يسعى لمقارنة نفسه بشعراء التفعيلة أو النثر. ولو اتفقنا مع تعريف ابن طباطبا العلوي (ت ٣٢٢ هـ) الذي يصف مراحل العمل الشعري بأن الشاعر إذا أراد بناء قصيدة «محض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعدّ له ما يلبسه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه، فإذا اتّفق له بيت يشاكل المعنى الذي يريد إثباته، وأعملَ فكره في شغل القوافي بما تقتضيه المعاني»، فإننا في باكورة الأشمر الشعرية أمام غريزة شعرية ومعنى سهل ممتنع، واللفظ والقافية والوزن كلها لباس لهذا المعنى، بل تكاد تكون القافية حلية لا أكثر.

عمل الشاعر متقطع يأتي على مرحلتين: سرد تجارب من يوميات الحب وإرسال رسائل رقيقة وأحياناً طائشة إلى «وردة» و«عليا» و«مي»، ومرحلة ثانية موسيقية، والشعر يبدو نمطاً من إلباس المعنى موسيقى، ونسج الوزن والقافية على قدّه. في رباعية «عفّ الهوى» يقول الأشمر: «لكن أعيذكِ أن تظني أنني/ عفّ الهوى كالراهب المتبتل»، نحن هنا أمام عناصر العفوية السلسة في القول والمعنى التي تذكرنا بالموشحات الأندلسية في بساطتها، وما أضاف إليها الشاعر من أنواع الطيش المحبّب الذي لا يخرج صاحبه من تصنيف الشهرستاني (٤٧٩-٥٤٨م) الذي يضم الشعراء إلى «الحكماء القدماء حيث الركن عندهم هو إيراد المقدمات المخيلة فحسب»، أي أن أساس الشعر هو المعنى المتمثل بالحكمة والاستدلال: في «حب لكل الفصول»، نحن إزاء نوع من الرباعيات التي تجري على رسلها وتصل أحياناً إلى الحكمة التي هي «ضالّة المحب» بتعبير الرسول العربي، كالرباعية التالية: «إن تسألي عن غدٍ أخبركِ أنّ غداً/ في عهدة الغيبِ حتّى اليوم لم يزلِ، الآن عندي هو الأيّام قاطبةً/ ما كان منها وما يأتي على عجلِ». صالح الأشمر الذي عرفناه في ترجماته عن الفرنسية لأوليفييه روا في «الإسلام والعلمانية» وعتيق رحيمي في «حجر الصبر»، وجيلبرت سينويه في «أنا القدس» وغيرها يبدو كأنه يستعمل في مجموعته الأولى معجماً سهلاً من المفردات والألفاظ التي تأخذ بساق القارئ مباشرة إلى النبع، ليتناول المعنى كما يقول الشاعر محمد علي شمس الدين في مقدمته للمجموعة «والضالع في غموض الحداثة وأقنعتها المركّبة يحب ذاك الوضوح وتلك المباشرة في تناول الحب والحياة، هكذا كما تُأكل الثمرة عن أمّها مباشرة، وتشرب الماء من قلب النبع وتقول ما لا يقال، كطفل، أو كشيخ مجرَّب خبِر الحياة وخبِرتْه».
يستخدم الأشمر أحياناً مفردات من اللغة اليومية التي هي أقرب للفصيح العامي مثل كلمة «فِعلاً» في رباعية بعنوان «مزاج»: «مهما يقُل عن كونه بك معجباً/ فلعلّه فِعلاً بغيرك معجبُ»، في تأكيد للعفوية والحب الصافي الذي لا يحتمل كيد العشاق وألاعيبهم التي تشبه ألاعيب اللغة في الشعر، و«النظم مبني على الذوق، ولو نُظم بتقطيع الأفاعيل لجاء الشعر متكلفاً غير مُرضٍ» كما يقول ابن الأثير (ت٣٦٧هـ). نظام الرباعيات الذي استعمله الأشمر كبناء لمجموعته يبدو منسجماً مع معاني الحب التي تكفيها بلاغياً أبياتٌ أربعة، فالمعنى كما يقول الحاتمي (ت٣٨٨هـ) هو مادة الشعر. أما الوزن والقافية، فوسيلة لحُسن اطراده واستمراره واللفظ كساء ومعرض، فالمعنى مستقل عن اللفظ والوزن والقافية، والشعر مستقل عن هذه جميعاً، ورأي الحاتمي كما يقول الدكتور مصطفى الجوزو في كتابه المرجعي «نظريات الشعر عند العرب» (دار الطليعة ١٩٨١) أبعد خطوة من رأي قدامة بن جعفر (ت٣٣٧هـ) صاحب أول تعريف للشعر ثلاثي الأركان يقوم على القافية والوزن والمعنى، لأن الحاتمي لا يكتفي بالحطّ من قدر القافية وحسب، بل ويشفع فيها الوزن. قد لا يكون صاحب «حب لكل الفصول» قد وضع نُصب عينيه كل هذا الجدل القديم حول الشعر، وإنما أراد من مجموعته إعلاناً للحب، ننتظر منه فصلاً خامساً يخبرنا في المستقبل عن أجمل إخوته.